main

الحرب الروسية – الأوكرانية نموذجاً دلالات وتداعيات خطأ الحسابات في المعارك العسكرية

يزخر‭ ‬التاريخ‭ ‬العسكري‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬قيام‭ ‬القادة‭ ‬السياسيين‭ ‬أو‭ ‬العسكريين‭ ‬بإشعال‭ ‬فتيل‭ ‬نزاعات‭ ‬دولية‭ ‬مكلفة‭ ‬تفشل‭ ‬فيها‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬ومنذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬أخفقت‭ ‬دول‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬الأزمات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬بدأتها،‭ ‬ويرتبط‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بوجود‭ ‬تقدير‭ ‬خاطئ‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬لقوة‭ ‬الخصم،‭ ‬أو‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬الضربات‭ ‬العسكرية‭ ‬الموجعة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬قد‭ ‬بنى‭ ‬توقعات‭ ‬خاطئة‭ ‬لمدى‭ ‬صمود‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الهجوم‭ ‬الكاسح‭ ‬الذي‭ ‬شنّه‭ ‬الأول‭ ‬ضد‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2022‭. ‬وبالمثل،‭ ‬ظنّت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬هجوم‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬ضد‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬2023‭ ‬سوف‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬استعادة‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬سيطرت‭ ‬عليها‭ ‬الأخيرة‭. ‬ويثير‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬أسباب‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬مع‭ ‬التطبيق‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية‭. ‬

نبدأ‭ ‬هنا‭ ‬بفرضية‭ ‬رئيسية،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬بأحد‭ ‬طرفي‭ ‬الصراع،‭ ‬ولكنه‭ ‬قد‭ ‬يرتبط‭ ‬بكليهما،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬النصر‭ ‬هو‭ ‬إدراك‭ ‬أحد‭ ‬الطرفين‭ ‬لأسباب‭ ‬الإخفاق‭ ‬وتبنيه‭ ‬مسارات‭ ‬عمل‭ ‬تصحيحية‭ ‬تأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬الحقائق‭ ‬المتكشفة‭ ‬والوقائع‭ ‬الجديدة،‭ ‬ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطرف‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬سوف‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬تصحيح‭ ‬مساره‭ ‬وتجنب‭ ‬الخسارة‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬وسوف‭ ‬تسعى‭ ‬المقالة‭ ‬لاختبار‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التطبيق‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬والتي‭ ‬تزعم‭ ‬المقالة‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬الطرفين‭ ‬قد‭ ‬ارتكب‭ ‬خطئاً‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭. ‬

أولاً‭: ‬مسببات‭ ‬الحسابات‭ ‬الخاطئة‭: ‬

تتعدد‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬وراء‭ ‬سوء‭ ‬الحسابات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القادة‭ ‬السياسيين،‭ ‬أو‭ ‬العسكريين،‭ ‬وبمراجعة‭ ‬الأدبيات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بقراري‭ ‬الحرب‭ ‬والسلام،‭ ‬يمكن‭ ‬حصر‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬في‭ ‬التالي‭:‬

1‭. ‬سوء‭ ‬الإدراك‭ ‬للنوايا‭ ‬والقدرات‭: ‬قامت‭ ‬مجموعة‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬المنظرين‭ ‬والمتخصصين‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬ثوسيديدس‭ ‬إلى‭ ‬مورجنثاو‭ ‬ببناء‭ ‬نماذج‭ ‬‮«‬عقلانية‮»‬‭ ‬للصراع،‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬يدركون‭ ‬بدقة‭ ‬التهديدات‭ ‬والفرص‭ ‬الخارجية،‭ ‬ويختارون‭ ‬سياساتهم‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬دقيق‭ ‬للتكلفة‭ ‬والعائد،‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬تعزيز‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭. ‬وتكشف‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬التاريخية‭ ‬عن‭ ‬خطأ‭ ‬هذا‭ ‬التصور،‭ ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬سوء‭ ‬إدراك‭ ‬قادة‭ ‬إحدى‭ ‬الدول‭ ‬لنوايا‭ ‬وقدرات‭ ‬خصومها‭ ‬تكون‭ ‬مسبباً‭ ‬رئيسياً‭ ‬للخطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات،‭ ‬والتي‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬غير‭ ‬مدروس‭ ‬بشن‭ ‬الحرب‭. ‬ويميل‭ ‬محللو‭ ‬الدفاع‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬التوقعات‭ ‬على‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬القابلة‭ ‬للقياس‭ ‬الكمي‭ ‬للخصم‭ ‬المحتمل،‭ ‬بينما‭ ‬تعطي‭ ‬الأوساط‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والاستخباراتية‭ ‬وزناً‭ ‬أكبر‭ ‬لدوافع‭ ‬الخصوم‭ ‬عند‭ ‬التنبؤ‭ ‬بالمستقبل‭. ‬وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بسوء‭ ‬التقدير‭ ‬في‭ ‬حساب‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية،‭ ‬الحالية‭ ‬والكامنة‭ ‬للخصم،‭ ‬فإنه‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬ميل‭ ‬للمبالغة‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬الذاتية‭ ‬مقابل‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬للخصم،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬بثقة‭ ‬عسكرية‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها‭ ‬تدفع‭ ‬باتجاه‭ ‬تبني‭ ‬الدولة‭ ‬لقرار‭ ‬الحرب‭. ‬

وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أبعاداً‭ ‬مادية‭ ‬قابلة‭ ‬للقياس‭ ‬في‭ ‬قدرات‭ ‬العدو،‭ ‬مثل‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والديمغرافية،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬أبعاداً‭ ‬أخرى‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬إحصاؤها،‭ ‬أو‭ ‬تقديرها،‭ ‬مثل‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬وعامل‭ ‬القيادة،‭ ‬والاستخبارات‭ ‬العسكرية‭ ‬وطبيعة‭ ‬العقيدة‭ ‬العسكرية‭ ‬للخصم‭. ‬ويعد‭ ‬الجهل‭ ‬بعقيدة‭ ‬الخصم‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬ونتائج‭ ‬الحرب‭ ‬بمثابة‭ ‬أحد‭ ‬المصادر‭ ‬الرئيسية‭ ‬لإساءة‭ ‬تقدير‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬للخصم‭. ‬وقد‭ ‬يزداد‭ ‬سوء‭ ‬إدراك‭ ‬العامل‭ ‬السابق‭ ‬بفضل‭ ‬المعلومات‭ ‬الاستخباراتية‭ ‬التي‭ ‬تتوفر‭ ‬عن‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬للخصم،‭ ‬والتي‭ ‬تقدم‭ ‬تقديرات‭ ‬خاطئة‭ ‬عنها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تقييم‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬الكامنة‭ ‬أمر‭ ‬مهم،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬حروب‭ ‬ممتدة‭. ‬

كما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬يصعب‭ ‬التنبؤ‭ ‬بها‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭ ‬تطور‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬الجديدة‭ ‬وتطبيقها‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬القدرات‭ ‬الإدارية،‭ ‬والتي‭ ‬تحدد‭ ‬كفاءة‭ ‬تحويل‭ ‬الموارد‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬فعالة،‭ ‬والاعتبارات‭ ‬السياسية‭ ‬مثل‭ ‬الإرادة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الموارد‭ ‬الوطنية‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬القطاع‭ ‬العسكري‭. ‬ففي‭ ‬كلتا‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬استهانت‭ ‬ألمانيا‭ ‬بالقدرة‭ ‬الصناعية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وكذلك‭ ‬باستعدادها‭ ‬لتكريس‭ ‬مواردها‭ ‬للحرب‭. ‬

ويدخل‭ ‬ضمن‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬يصعب‭ ‬تقديرها،‭ ‬التقييمات‭ ‬الخاطئة‭ ‬لتأثير‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬التماسك‭ ‬والدعم‭ ‬السياسي‭ ‬لشعب‭ ‬الخصم،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬الحرب‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬ميل‭ ‬للافتراض،‭ ‬بشكل‭ ‬خاطئ،‭ ‬أن‭ ‬شعب‭ ‬الخصم‭ ‬ليس‭ ‬معادياً،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬متعاطفاً‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬الدولة‭ ‬المناوئة‭ ‬له‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬الافتراض‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬بأن‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬لا‭ ‬يؤيد‭ ‬الكرملين‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬ضد‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬استطلاعات‭ ‬الرأي‭ ‬الروسية‭ ‬كانت‭ ‬تظهر‭ ‬أن‭ ‬دعم‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬للحرب‭ ‬يتأرجح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬70‭ ‬و75‭ % ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العامين‭ ‬الأوليين‭ ‬من‭ ‬الحرب‭. ‬وتأتي‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬سوء‭ ‬الإدراك،‭ ‬افتراض‭ ‬مركزية‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬لدى‭ ‬الخصم،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات‭.‬‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فإنه‭ ‬أثناء‭ ‬الأزمة‭ ‬الكوبية،‭ ‬تم‭ ‬إسقاط‭ ‬طائرة‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الأمريكية‭ ‬‮«‬يو‭ ‬2‮»‬‭ ‬أثناء‭ ‬تحليقها‭ ‬فوق‭ ‬كوبا‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬أكتوبر‭ ‬1962‭ ‬بصاروخ‭ ‬سوفييتي‭. ‬واعتقدت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬القيادة‭ ‬السوفييتية‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬نيكيتا‭ ‬خيرتشوف‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أصدرت‭ ‬الأوامر،‭ ‬وقال‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬الأمريكي،‭ ‬روبرت‭ ‬ماكنمارا،‭ ‬حينها‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬تفسير‭ ‬ما‭ ‬جرى‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬تكشف‭ ‬الوثائق‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬الإفراج‭ ‬عنها‭ ‬لاحقاً،‭ ‬أن‭ ‬القوات‭ ‬الكوبية‭ ‬بأوامر‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الكوبي‭ ‬فيدل‭ ‬كاسترو،‭ ‬قاموا‭ ‬بإطلاق‭ ‬نيران‭ ‬المضادات‭ ‬الأرضية‭ ‬ضد‭ ‬الطائرات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستعد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لغزو‭ ‬وشيك‭ ‬للجزيرة،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬صدور‭ ‬أوامر‭ ‬صريحة‭ ‬من‭ ‬موسكو‭ ‬بعدم‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬دون‭ ‬إذن‭ ‬صريح‭ ‬من‭ ‬الجنرال‭ ‬السوفييتي‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬كوبا،‭ ‬قام‭ ‬قائد‭ ‬وحدة‭ ‬الصواريخ‭ ‬سام‭ ‬المحلي،‭ ‬بإصدار‭ ‬أمر‭ ‬بإطلاق‭ ‬النار،‭ ‬تضامناً‭ ‬مع‭ ‬رفقائه‭ ‬الكوبيين،‭ ‬وأسقط‭ ‬‮«‬يو‭ ‬2‮»‬‭.‬

أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالنوايا،‭ ‬فيلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬خطأ‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬تصريحات‭ ‬أو‭ ‬أفعال‭ ‬الخصم،‭ ‬وكذلك‭ ‬انعكاسها‭ ‬على‭ ‬سلوكه‭ ‬المستقبلي‭. ‬ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬توقع‭ ‬عدائية‭ ‬نوايا‭ ‬الخصم‭ ‬هي‭ ‬الشكل‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعاً‭ ‬للتصور‭ ‬الخاطئ‭. ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬ينبع‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬الارتكان‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬نوايا‭ ‬الخصم‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬أسوأ‭ ‬السيناريوهات،‭ ‬والميل‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬النوايا‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬القدرات‭ ‬المتاحة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬شيطنة‭ ‬الخصم‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬سوء‭ ‬إدراك‭ ‬لنوايا‭ ‬وقدرات‭ ‬الأطراف‭ ‬الثالثة‭. ‬ونظراً‭ ‬لأن‭ ‬احتمالية‭ ‬النصر‭ ‬والتكاليف‭ ‬المتوقعة‭ ‬للحرب‭ ‬تتأثر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬باحتمالية‭ ‬تدخل‭ ‬دول‭ ‬ثالثة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬طرف‭ ‬أو‭ ‬آخر‭ ‬وبالتأثير‭ ‬المتوقع‭ ‬لهذا‭ ‬التدخل‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الحرب،‭ ‬فإن‭ ‬التصورات‭ ‬الخاطئة‭ ‬لهذه‭ ‬المتغير‭ ‬قد‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬الحساب‭ ‬الدقيق‭ ‬للتكلفة‭ ‬والعائد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬قد‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬شن‭ ‬الحرب‭. ‬وتندرج‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬التصورات‭ ‬الخاطئة‭ ‬لنوايا‭ ‬وقدرات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الخصوم‭ ‬المحتملين‭ ‬والحلفاء‭ ‬المحتملين‭.‬

2‭. ‬الإنكار‭ ‬والخداع‭: ‬يشير‭ ‬الإنكار‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬حجب‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستخدمها‭ ‬الخصم‭ ‬لمعرفة‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭. ‬أما‭ ‬الخداع،‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬تبذلها‭ ‬دولة‭ ‬ما‭ ‬لجعل‭ ‬الخصم‭ ‬يعتقد‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬معلومات‭ ‬مضللة‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الإنكار‭ ‬والخداع‭ ‬نشاطان‭ ‬مختلفان،‭ ‬فإنهما‭ ‬متشابكان‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬خداع‭ ‬الخصم‭ ‬بشأن‭ ‬النوايا‭ ‬أو‭ ‬الأهداف‭ ‬الحقيقية‭ ‬للجهة‭ ‬المخادعة،‭ ‬يجب‭ ‬إخفاء‭ ‬أو‭ ‬‮«‬إنكار‮»‬‭ ‬المعلومات‭ ‬المهمة‭ (‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬حول‭ ‬تطوير‭ ‬برنامج‭ ‬عسكري‭ ‬معين،‭ ‬أو‭ ‬سياسة،‭ ‬أو‭ ‬مسار‭ ‬عمل‭ ‬تتبعه‭ ‬الدولة،‭ ‬إلخ‭) ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬المستهدفة‭. ‬وبالتوازي‭ ‬يمكن‭ ‬ممارسة‭ ‬الخداع،‭ ‬وهو‭ ‬الجهد‭ ‬المبذول‭ ‬لجعل‭ ‬الخصم‭ ‬يعتقد‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬معلومات‭ ‬مضللة،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬صحيحة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عمليات‭ ‬الإنكار‭. ‬وينطوي‭ ‬ذلك‭ ‬الخداع‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬عمليات،‭ ‬مثل‭ ‬استخدام‭ ‬‮«‬التسريبات‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬معلومات‭ ‬مدسوسة،‭ ‬أو‭ ‬نشر‭ ‬شراك‭ ‬خداعية‭ ‬لخلق‭ ‬انطباع‭ ‬بأن‭ ‬الحقيقة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وبالتالي‭ ‬خلق‭ ‬‮«‬واقع‭ ‬بديل‮»‬‭ ‬لخداع‭ ‬الدولة‭ ‬المستهدفة‭. ‬وعندما‭ ‬ينجح‭ ‬الإنكار‭ ‬والخداع،‭ ‬يقود‭ ‬المخادع‭ ‬الدولة‭ ‬المستهدفة‭ ‬إلى‭ ‬تصديق‭ ‬‮«‬القصة‭ ‬الملفقة‮»‬‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تتصرف‭ ‬الدولة‭ ‬المستهدفة‭ ‬بطريقة‭ ‬تخدم‭ ‬مصالح‭ ‬المخادع‭. ‬ولاشك‭ ‬أن‭ ‬الإنكار‭ ‬والخداع‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬بحسابات‭ ‬خاطئة‭. ‬

وهناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬التاريخية‭ ‬على‭ ‬الإنكار،‭ ‬لعل‭ ‬أبرزها‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬خلال‭ ‬أزمة‭ ‬الصواريخ‭ ‬الكوبية‭. ‬فحتى‭ ‬العام‭ ‬1962،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬السوفييت‭ ‬نشروا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬سلاح‭ ‬نووي‭ ‬تكتيكي‭ ‬في‭ ‬كوبا‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭ ‬الأصغر‭ ‬حجماً‭ ‬تهدف‭ ‬لتوفير‭ ‬الحماية‭ ‬للجزيرة‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬غزو‭ ‬بحري‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬وقبل‭ ‬22‭ ‬أكتوبر‭ ‬1962،‭ ‬حصل‭ ‬الضباط‭ ‬السوفييت‭ ‬الموجودون‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬على‭ ‬تصريح‭ ‬مسبق‭ ‬باستخدامها‭ ‬ضد‭ ‬قوات‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكية‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬كان‭ ‬الأخوان‭ ‬كينيدي‭ ‬وجميع‭ ‬مستشاريهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬خطئاً‭ ‬أن‭ ‬السوفييت‭ ‬نشروا‭ ‬فقط‭ ‬الصواريخ‭ ‬النووية‭ ‬متوسطة‭ ‬المدى‭ ‬في‭ ‬كوبا،‭ ‬وكانت‭ ‬أجهزة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬تبحث‭ ‬عنها،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬موقعها‭. ‬وبالتالي،‭ ‬لو‭ ‬نفذت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تهديدها‭ ‬بغزو‭ ‬الجزيرة،‭ ‬لتم‭ ‬إبادة‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المهاجمة‭ ‬نووياً‭. ‬

وارتباطاً‭ ‬بما‭ ‬سبق،‭ ‬تمثل‭ ‬الخطأ‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬المثال‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أغلبية‭ ‬مستشاري‭ ‬الرئيس‭ ‬العسكريين‭ ‬والمدنيين،‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬ينصحون‭ ‬الرئيس‭ ‬بمهاجمة‭ ‬كوبا،‭ ‬كانوا‭ ‬يعتقدوا‭ ‬خطئاً‭ ‬أن‭ ‬السوفييت‭ ‬لن‭ ‬يردوا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬عسكرياً‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬رؤوس‭ ‬نووية‭ ‬جاهزة‭ ‬عملياتياً‭ ‬للاستخدام‭ ‬في‭ ‬الجزيرة،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬تقييمات‭ ‬وكالة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬المركزية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬والتي‭ ‬اتضح‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬عدم‭ ‬صحتها‭. ‬ويكشف‭ ‬هذا‭ ‬المثال،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الأزمات‭ ‬الدولية‭ ‬المعقدة،‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬صانعي‭ ‬القرار‭ ‬التحسب‭ ‬لإمكانية‭ ‬وجود‭ ‬معلومات‭ ‬حيوية‭ ‬ناقصة‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬تماماً‭ ‬مسار‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭. ‬

وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الإنكار،‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬السابقة،‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إلى‭ ‬تداعيات‭ ‬كارثية،‭ ‬مثل‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬بصورة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬اندلاع‭ ‬حرب‭ ‬نووية،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬أخرى،‭ ‬قد‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬تورط‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬القتال،‭ ‬أو‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬استعدادها‭ ‬للقتال‭ ‬نتيجة‭ ‬لعمليات‭ ‬التضليل‭ ‬والإنكار‭ ‬الممارس‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬خصمها‭. ‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬الأمثلة‭ ‬التاريخية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الحسابات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الخاطئة،‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬تجسيدها‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬المفهوم‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬مصر،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬تل‭ ‬أبيب،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬بدء‭ ‬حرب‭ ‬كانت‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬خسارتها،‭ ‬وفقاً‭ ‬لحسابات‭ ‬تل‭ ‬أبيب،‭ ‬بسبب‭ ‬تفوق‭ ‬الأسلحة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬ورفض‭ ‬السوفييت‭ ‬توفير‭ ‬أحدث‭ ‬الأسلحة‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬‮«‬التهدئة‮»‬‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭. ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬خطة‭ ‬التضليل‭ ‬والإنكار‭ ‬المعلوماتي‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬الجانب‭ ‬المصري،‭ ‬فقد‭ ‬قامت‭ ‬مصر‭ ‬بنشر‭ ‬قوات‭ ‬عسكرية‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬خط‭ ‬القناة‭ ‬تحت‭ ‬ستار‭ ‬القيام‭ ‬بتدريبات‭ ‬سنوية‭. ‬ففي‭ ‬الأعوام‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬عام‭ ‬1973،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬كانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬تتخوف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مصر‭ ‬تخطط‭ ‬لتنفيذ‭ ‬هجوم‭ ‬لاسترداد‭ ‬سيناء،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬التدريبات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬تهديد،‭ ‬ولذلك‭ ‬تمسكت‭ ‬الاستخبارات‭ ‬العسكرية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬بالاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭ ‬كانت‭ ‬تقوم‭ ‬بتدريبات‭ ‬سنوية،‭ ‬وأن‭ ‬انتشار‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬كان‭ ‬دفاعياً‭ ‬بالأساس،‭ ‬وأن‭ ‬مصر‭ ‬لن‭ ‬تقوم‭ ‬بشن‭ ‬الحروب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬إذ‭ ‬شنّت‭ ‬مصر‭ ‬هجوماً‭ ‬مكنّها‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬خط‭ ‬بارليف‭ ‬وهزيمة‭ ‬القوات‭ ‬الإسرائيلية‭. ‬أما‭ ‬الأنكار،‭ ‬فقد‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬حائط‭ ‬دفاعي‭ ‬من‭ ‬الصواريخ،‭ ‬والذي‭ ‬تضمن‭ ‬نوعين‭ ‬جديدين‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬الدفاع‭ ‬الجوي،‭ ‬وهما‭ ‬نظام‭ ‬الدفاع‭ ‬الجوي‭ ‬‮«‬سام‭ ‬6‮»‬‭ ‬و«سام‭ ‬7‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬تعلم‭ ‬عنهما‭ ‬إسرائيل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭. ‬كما‭ ‬قامت‭ ‬القوات‭ ‬المصرية‭ ‬بالتحرك‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬هجومية‭ ‬وإخفاء‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نقل‭ ‬القوات‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬نهاراً‭ ‬ثم‭ ‬إعادتهم‭ ‬ليلاً،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يدركه‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬مصر‭ ‬كانت‭ ‬تعيد‭ ‬كتيبة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬لواء،‭ ‬بينما‭ ‬اتخذت‭ ‬الكتائب‭ ‬الأخرى‭ ‬مواقع‭ ‬مخفية‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬القناة‭.‬

3‭. ‬دور‭ ‬مؤسسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭:‬‭ ‬يقصد‭ ‬بها‭ ‬المؤسسات‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬والدفاع،‭ ‬مثل‭ ‬وزارتي‭ ‬الخارجية‭ ‬والدفاع،‭ ‬وكذلك‭ ‬أجهزة‭ ‬الاستخبارات‭. ‬وتلعب‭ ‬هذه‭ ‬الوزارات‭ ‬والأجهزة‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬قرار‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقرار‭ ‬الحرب‭ ‬والسلام‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬المتعلق‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬القيادة‭ ‬السياسية‭ ‬للدولة،‭ ‬سواء‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة،‭ ‬أو‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬القرارات،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬توفر‭ ‬من‭ ‬معلومات‭. ‬

ولا‭ ‬تنشأ‭ ‬الأزمات‭ ‬الدولية‭ ‬بصورة‭ ‬مفاجئة،‭ ‬فهي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬نتيجة‭ ‬قرارات‭ ‬مدروسة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القادة‭ ‬السياسيين‭ ‬الذين‭ ‬يوازنون‭ ‬بين‭ ‬التكاليف‭ ‬والفوائد‭. ‬فمن‭ ‬ناحية،‭ ‬تسمح‭ ‬بعض‭ ‬الأزمات‭ ‬للدول‭ ‬بتعزيز‭ ‬أهدافها،‭ ‬ودفع‭ ‬الخصوم‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬تنازلات‭. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬تزيد‭ ‬الأزمات‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬نشوب‭ ‬صراع‭ ‬أوسع‭ ‬نطاقاً،‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬مدمرة،‭ ‬إنسانية‭ ‬واقتصادية‭. ‬ويميل‭ ‬القادة‭ ‬إلى‭ ‬تجنب‭ ‬إثارة‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬تفشل‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافهم‭ ‬لأن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأزمات‭ ‬تترتب‭ ‬عليها‭ ‬تكاليف‭ ‬ولا‭ ‬تحقق‭ ‬فوائد‭. ‬

بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬المؤسسي‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬صانعو‭ ‬القرار‭ ‬قرارات‭ ‬ببدء‭ ‬الأزمة‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬افتراضات‭ ‬غير‭ ‬دقيقة‭ ‬حول‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭. ‬ويمكن‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬ترتيبات‭ ‬بيروقراطية‭ ‬لمؤسسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬سوء‭ ‬التقدير‭. ‬النوع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬التصميم،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬المؤسسات‭ ‬المتكاملة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات‭ ‬من‭ ‬زاويتين‭. ‬أولاً،‭ ‬توفر‭ ‬المؤسسات‭ ‬المتكاملة‭ ‬المعلومات‭ ‬أثناء‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬والتي‭ ‬يطلبها‭ ‬القادة،‭ ‬والتي‭ ‬تتعلق‭ ‬بتقييم‭ ‬احتمال‭ ‬نجاح‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الأزمة،‭ ‬أو‭ ‬التكاليف‭ ‬المتوقعة،‭ ‬أو‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬البديلة‭ ‬المتاحة‭ ‬لصنّاع‭ ‬القرار‭. ‬ثانياً،‭ ‬تسمح‭ ‬المؤسسات‭ ‬المتكاملة‭ ‬لمؤسسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬بتشارك‭ ‬المعلومات‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬البيروقراطيين‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬مدى‭ ‬أهمية‭ ‬معلوماتهم‭ ‬للقادة،‭ ‬مقارنة‭ ‬بما‭ ‬توفره‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬الأخرى‭. ‬وبنفس‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الأهمية،‭ ‬فهي‭ ‬تسمح‭ ‬للبيروقراطيين‭ ‬بالرقابة‭ ‬على‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تنقلها‭ ‬البيروقراطيات‭ ‬إلى‭ ‬القائد‭. ‬ويساهم‭ ‬العاملان‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬قدر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬وبجودة‭ ‬أعلى‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬القادة‭ ‬الذين‭ ‬يجلسون‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬المؤسسات‭ ‬المتكاملة‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬وضع‭ ‬لتحديد‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬تعزز‭ ‬أهداف‭ ‬الدولة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تجنب‭ ‬المعارك‭ ‬غير‭ ‬الناجحة‭ ‬خارجياً‭. ‬وبالمقارنة،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬نوعين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي،‭ ‬تزيدان‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬سوء‭ ‬التقدير‭ ‬في‭ ‬الأزمات‭ ‬الدولية‭. ‬ويتمثل‭ ‬النوع‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬‮«‬المؤسسات‭ ‬المنعزلة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعيق‭ ‬تدفق‭ ‬المعلومات‭ ‬أفقياً‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬مؤسسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬القادة‭ ‬يتلقون‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬المعلومات،‭ ‬فإنها‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أقل‭ ‬جودة،‭ ‬لأن‭ ‬البيروقراطيين‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تقارير‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً‭ ‬أو‭ ‬التحقق‭ ‬منها‭. ‬وهذا‭ ‬يخلق‭ ‬مسلكاً‭ ‬يؤدي‭ ‬لسوء‭ ‬التقدير،‭ ‬حيث‭ ‬يبادر‭ ‬القادة‭ ‬إلى‭ ‬افتعال‭ ‬أزمات‭ ‬دولية‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬بيروقراطية‭ ‬غير‭ ‬دقيقة‭.‬

أما‭ ‬النوع‭ ‬الثاني،‭ ‬فيتمثل‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬المجزأة،‭ ‬والتي‭ ‬تكون‭ ‬بموجبها‭ ‬المؤسسات‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬للقائد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إمداده‭ ‬بالمعلومات‭ ‬اللازمة‭. ‬ويؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬دوافع‭ ‬البيروقراطية‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المعلومات‭ ‬وتطوير‭ ‬الخبرات‭ ‬المؤسسية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المؤسسات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬تعجز‭ ‬عن‭ ‬قول‭ ‬الحقيقة‭ ‬للسلطة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتراجع‭ ‬دور‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مسائل‭ ‬الحرب‭ ‬والسلام،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬يقع‭ ‬عبء‭ ‬اتخاذ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬على‭ ‬القائد‭ ‬السياسي‭ ‬وحده،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قرارات‭ ‬متسرعة‭ ‬وغير‭ ‬مدروسة‭. ‬

ويحدد‭ ‬القادة‭ ‬دور‭ ‬بيروقراطيات‭ ‬الأمن‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬قد‭ ‬يفرضون‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬عملها‭. ‬ويرى‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬أن‭ ‬القادة‭ ‬قد‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬المؤسسات‭ ‬المتكاملة‭ ‬قد‭ ‬تفرض‭ ‬تحدياً،‭ ‬أو‭ ‬تهديدات‭ ‬لمسارات‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬يفضلونها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬إضعافها،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منع‭ ‬تعاونها‭ ‬في‭ ‬تبادل‭ ‬المعلومات‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭. ‬

ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬أياً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬المؤسسية‭ ‬السابقة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬أو‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬فإن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬جونسون‭ ‬تبنى‭ ‬نمط‭ ‬المؤسسات‭ ‬المجزأة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ترتب‭ ‬عليه‭ ‬منع‭ ‬مؤسسات‭ ‬صنع‭ ‬قرار‭ ‬الأمن‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬إيصال‭ ‬معلومات‭ ‬تتسم‭ ‬بالكفاءة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بخيار‭ ‬التصعيد‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وذلك‭ ‬نظراً‭ ‬لخوفه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬بتسريب‭ ‬أخبار‭ ‬للصحافة‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬الحرب،‭ ‬وقام‭ ‬بمنع‭ ‬المشاورات‭ ‬داخل‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬القومي،‭ ‬وأنشأ‭ ‬منتدى‭ ‬بديل‭ ‬منعزل‭ ‬يُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬غداء‭ ‬الثلاثاء‮»‬،‭ ‬واستبعد‭ ‬جونسون‭ ‬فعلياً‭ ‬الأصوات‭ ‬المعارضة‭ ‬من‭ ‬المداولات‭ ‬وثبط‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬الرئيسية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالحرب‭. ‬وأثر‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬جودة‭ ‬المعلومات‭ ‬المرفوعة،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬ناقصة‭ ‬ومحرفة‭ ‬بصورة‭ ‬تلائم‭ ‬المعتقدات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬يحملها‭ ‬بالفعل‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬الإسهام‭ ‬النظري‭ ‬للرأي‭ ‬السابق،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬رصده‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬طويلة،‭ ‬وتحديداً‭ ‬بعد‭ ‬اتجاه‭ ‬الدول‭ ‬للإفراج‭ ‬عن‭ ‬وثائقها‭ ‬الحكومية‭ ‬السرية،‭ ‬والتي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬المداولات‭ ‬التي‭ ‬تتم‭ ‬بين‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬والأجهزة‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات،‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬يتم‭ ‬الادعاء‭ ‬بأن‭ ‬قادة‭ ‬الخصوم‭ ‬يتبنون‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬دون‭ ‬توفير‭ ‬أدلة‭ ‬كافية‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬مالت‭ ‬السردية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربية‭ ‬للتأكيد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ – ‬الأوكرانية‭ ‬على‭ ‬استئثار‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي،‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين،‭ ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة،‭ ‬ورفضه‭ ‬السماح‭ ‬بأي‭ ‬آراء‭ ‬مستقلة‭ ‬تخالفه،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬أبعد‭ ‬الأصوات‭ ‬الناقدة‭ ‬والمناقشات‭ ‬الصادقة‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬العسكرية‭ ‬والدفاعية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ورط‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬خاسرة‭. ‬وتعالت‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات‭ ‬تحديداً‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬2023،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬نجاح‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬شن‭ ‬هجومها‭ ‬المضاد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬2022،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬يقف‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬أسباب‭ ‬انتصار‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬هجوم‭ ‬منتصف‭ ‬2023،‭ ‬وكذلك‭ ‬هجوم‭ ‬كورسك‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬2025‭. ‬

ثانياً‭: ‬الحسابات‭ ‬الخاطئة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية‭ ‬

تقدم‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية‭ ‬مثالاً‭ ‬جيداً‭ ‬على‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الأطراف‭ ‬الرئيسية‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬سواء‭ ‬تمثل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وحلفائها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭. ‬وقبل‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬تفصيل‭ ‬الأخطاء‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الملائم‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬أربع‭ ‬مراحل‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬وهي‭ ‬كالتالي‭: ‬المرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬والتي‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬فبراير‭ ‬2022،‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬الهجوم‭ ‬الأوكراني‭ ‬المعاكس‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬العام‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬الأولى،‭ ‬سيطرت‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬مساحات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬العاصمة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬كييف‭. ‬

وتبدأ‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬6‭ ‬سبتمبر‭ ‬حين‭ ‬نفذ‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬هجوماً‭ ‬معاكساً‭ ‬في‭ ‬خاركيف‭ ‬تمكن‭ ‬خلالها‭ ‬حتى‭ ‬1‭ ‬أكتوبر‭ ‬2022،‭ ‬من‭ ‬تحرير‭ ‬أغلب‭ ‬مناطقها،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬محدودة‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬لوهانسك‭. ‬واستمرت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬حتى‭ ‬يونيو‭ ‬–‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023،‭ ‬حينما‭ ‬فشل‭ ‬الهجوم‭ ‬الأوكراني‭ ‬المضاد‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭. ‬وبدأت‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة،‭ ‬حينما‭ ‬أقدم‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬الهجوم‭ ‬الأوكراني‭ ‬المضاد‭ ‬بمواصلة‭ ‬توسيع‭ ‬قبضته‭ ‬تدريجياً‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬وشرق‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وسيطر‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬استراتيجية،‭ ‬مثل‭ ‬أفدييفكا‭ (‬فبراير‭ ‬2024‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الرابعة،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬6‭ ‬أغسطس‭ ‬2024،‭ ‬مع‭ ‬توغل‭ ‬أوكرانيا‭ ‬داخل‭ ‬الأراضي‭ ‬الروسية‭ ‬وسيطرتها‭ ‬على‭ ‬حوالي‭ ‬ألف‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع‭ ‬داخل‭ ‬إقليم‭ ‬كورسك‭ ‬الروسي،‭ ‬وهي‭ ‬المحاولة‭ ‬التي‭ ‬تكللت‭ ‬بالفشل‭ ‬التام،‭ ‬مع‭ ‬نجاح‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬استعادة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬أراضي‭ ‬كورسك‭ ‬بحلول‭ ‬منتصف‭ ‬مارس‭ ‬2025‭. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬فإن‭ ‬روسيا‭ ‬واصلت‭ ‬زخمها‭ ‬العسكري،‭ ‬وتمكنت‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬نحو‭ ‬مناطق‭ ‬استراتيجية،‭ ‬مثل‭ ‬بوكروفسك‭ ‬وتشاسف‭ ‬يار‭ (‬أواخر‭ ‬2024،‭ ‬وأوائل‭ ‬2025‭).‬

في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬يتمثل‭ ‬الخطأ‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الرئيسي‭ ‬لموسكو‭ ‬في‭ ‬سوء‭ ‬تقديراتها‭ ‬للفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تسيطر‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬لم‭ ‬يتوقع‭ ‬أن‭ ‬يلاقي‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬كييف،‭ ‬بسبب‭ ‬اتباع‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬لتكتيكات‭ ‬الحرب‭ ‬اللامتماثلة‭ ‬وحروب‭ ‬المدن،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬استفادته‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ ‬الغربي‭ ‬بالمعدات‭ ‬والأسلحة‭ ‬والاستخبارات،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬هيمارس،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬فقد‭ ‬أخطأت‭ ‬الحسابات‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬شقين،‭ ‬وهما‭ ‬تقدير‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التسليح‭ ‬ومعنويات‭ ‬الجنود،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬الأطراف‭ ‬الثالثة،‭ ‬والمقصود‭ ‬بذلك‭ ‬دعم‭ ‬دول‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬لأوكرانيا‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬الغربية‭ ‬أنبرت‭ ‬لتصوير‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬كانت‭ ‬تخطط‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬بضعة‭ ‬أيام،‭ ‬وأنها‭ ‬فشلت‭ ‬استراتيجياً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المستوى،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لم‭ ‬يعلم‭ ‬أحد‭ ‬ماهية‭ ‬الأهداف‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للكرملين‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬إلا‭ ‬الدائرة‭ ‬المقربة‭ ‬المحيطة‭ ‬ببوتين‭. ‬ولم‭ ‬تبلور‭ ‬موسكو‭ ‬أهدافاً‭ ‬واضحة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الهجوم‭ ‬الأوكراني‭ ‬المضاد‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬2022،‭ ‬والذي‭ ‬في‭ ‬أعقابه‭ ‬أعلنت‭ ‬روسيا‭ ‬أهدافاً‭ ‬عسكرية‭ ‬واضحة،‭ ‬وهي‭ ‬أنها‭ ‬تسعى‭ ‬لضم‭ ‬أربعة‭ ‬أقاليم‭ ‬أوكرانية‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬لوغانسك‭ ‬ودونيتسك‭ ‬وزابوريجيا‭ ‬وخيرسون‭. ‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬الخطأ‭ ‬الفادح‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬هي‭ ‬أنها‭ ‬أخطأت‭ ‬في‭ ‬حساب‭ ‬قوة‭ ‬روسيا،‭ ‬واستعدادها‭ ‬لخوض‭ ‬الحرب‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬مصالحها،‭ ‬كما‭ ‬مالت‭ ‬حسابات‭ ‬الرئيس‭ ‬الأوكراني،‭ ‬فولوديمير‭ ‬زيلينسكي،‭ ‬للاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬لن‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬دعم‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬اقتصادياً‭ ‬وعسكرياً،‭ ‬طالما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تلعب‭ ‬دور‭ ‬رأس‭ ‬الحربة‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬جيوسياسي‭ ‬يهدف،‭ ‬ضمن‭ ‬أمور‭ ‬أخرى،‭ ‬إلى‭ ‬هزيمة‭ ‬روسيا‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إفقادها‭ ‬مركزها‭ ‬كقوة‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إدامة‭ ‬سيطرة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬خصوصاً،‭ ‬والدول‭ ‬الغربية‭ ‬عموماً،‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬أكده‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬لحلف‭ ‬‮«‬الناتو‮»‬‭ ‬مارك‭ ‬روته،‭ ‬حينما‭ ‬صرح‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬2025،‭ ‬قائلاً‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬من‭ ‬الواضح‭ ‬تماماً‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬صراعاً‭ ‬إقليمياً،‭ ‬بل‭ ‬صراعا‭ ‬عالمياً،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬هناك‭ ‬جمهور‭ ‬سيحكم‭ ‬على‭ ‬نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭. ‬من‭ ‬سيخرج‭ ‬منتصراً‭: ‬روسيا‭ ‬أم‭ ‬الغرب‮»‬‭. ‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬جاء‭ ‬أحد‭ ‬أكبر‭ ‬الحسابات‭ ‬الخاطئة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬الداعمة‭ ‬لأوكرانيا،‭ ‬والتي‭ ‬ظنّت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الحرب،‭ ‬أن‭ ‬العقوبات‭ ‬الغربية‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬ضد‭ ‬روسيا،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الدعم‭ ‬العسكري‭ ‬لكييف،‭ ‬سوف‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إسقاط‭ ‬الرئيس‭ ‬بوتين‭. ‬ففي‭ ‬26‭ ‬مارس‭ ‬2022،‭ ‬صرح‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬السابق،‭ ‬جو‭ ‬بايدن،‭ ‬‮«‬بحق‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬الرجل‭ (‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬بوتين‭) ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬السلطة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬التصريح‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬نية‭ ‬واشنطن‭ ‬تغيير‭ ‬الحكومة‭ ‬الروسية‭. ‬وقبلها‭ ‬أكد‭ ‬بايدن،‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬فبراير،‭ ‬‮«‬إن‭ ‬العقوبات‭ ‬لم‭ ‬تصمم‭ ‬لمنع‭ ‬الغزو،‭ ‬ولكن‭ ‬لمعاقبة‭ ‬روسيا‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭.. ‬حتى‭ ‬يعرف‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬ما‭ ‬جلبه‭ (‬في‭ ‬إشارة‭ ‬لبوتين‭) ‬عليهم‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‮»‬‭. ‬

وكتب‭ ‬جيمس‭ ‬هيبي،‭ ‬وزير‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬البريطانية،‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬الديلي‭ ‬تلغراف،‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬فبراير‭ ‬2022‭: ‬‮«‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فشله‭ ‬كاملاً‭.. ‬وتمكين‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬مدى‭ ‬قلة‭ ‬اهتمامه‭ ‬بهم‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬إظهار‭ ‬ذلك‭ ‬لهم،‭ ‬ستكون‭ ‬أيام‭ ‬بوتين‭ ‬كرئيس‭ ‬معدودة‭ ‬بالتأكيد‭. ‬سيخسر‭ ‬السلطة‭ ‬ولن‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬خليفته‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬1‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬العام،‭ ‬قال‭ ‬المتحدث‭ ‬باسم‭ ‬بوريس‭ ‬جونسون‭ ‬إن‭ ‬العقوبات‭ ‬على‭ ‬روسيا‭ ‬‮«‬هي‭ ‬لإسقاط‭ ‬نظام‭ ‬بوتين‮»‬‭. ‬وتعكس‭ ‬مجمل‭ ‬التصريحات‭ ‬السابقة‭ ‬استراتيجية‭ ‬أمريكية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬لتغيير‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬مع‭ ‬اتخاذ‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭ ‬ذريعة‭ ‬لها‭. ‬وكان‭ ‬بايدن‭ ‬يعتقد‭ ‬جازماً‭ ‬في‭ ‬خطته‭ ‬هذه،‭ ‬إذ‭ ‬أعلن‭ ‬بلغة‭ ‬الواثق‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬2022‭ ‬أن‭ ‬الروبل‭ ‬الروسي‭ ‬‮«‬تحوّل‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬إلى‭ ‬أنقاض‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬الاقتصاد‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬لخسارة‭ ‬نصف‭ ‬قيمته‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التوقعات‭ ‬كانت‭ ‬خاطئة‭ ‬بشكل‭ ‬كارثي،‭ ‬فالاقتصاد‭ ‬الروسي‭ ‬لم‭ ‬ينكمش‭ ‬ولو‭ ‬بمقدار‭ ‬ضئيل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2022،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬الغربية‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة،‭ ‬بل‭ ‬شهد‭ ‬نمواً‭ ‬متسارعاً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2023‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬التقديرات‭ ‬الغربية‭ ‬أخطأت‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬حجم‭ ‬الدعم‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي،‭ ‬بوتين،‭ ‬داخل‭ ‬بلاده،‭ ‬واستعدادهم‭ ‬للتضحية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬روسيا‭ ‬كقوى‭ ‬عظمى‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬خطأ‭ ‬آخر‭ ‬ارتكبه‭ ‬الغرب،‭ ‬وهو‭ ‬اعتقاده‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬غير‭ ‬الغربية‭ ‬سوف‭ ‬تتضامن‭ ‬مع‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬روسيا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتم‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬المختلفة‭ ‬دانت‭ ‬روسيا‭ ‬لجهة‭ ‬قيامها‭ ‬بشن‭ ‬عملية‭ ‬لغزو‭ ‬دولة‭ ‬مجاورة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الأغلبية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬رفضت‭ ‬الانصياع‭ ‬إلى‭ ‬ضغوط‭ ‬الغرب‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬عقوباتهم‭ ‬ضد‭ ‬موسكو‭. ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأخيرة‭ ‬تقوم‭ ‬بتصدير‭ ‬منتجات‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها،‭ ‬مثل‭ ‬الوقود،‭ ‬والغذاء‭ ‬وغيرهما‭. ‬

في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬تمثل‭ ‬أكبر‭ ‬خطأ‭ ‬ارتكبته‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬كفاية‭ ‬حجم‭ ‬القوات‭ ‬المخصصة‭ ‬للعملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الخاصة،‭ ‬والتي‭ ‬قدرت‭ ‬بنحو‭ ‬150‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭. ‬وهذا‭ ‬الخطأ‭ ‬تداركته‭ ‬روسيا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رفع‭ ‬عدد‭ ‬قواتها‭ ‬إلى‭ ‬حوالي‭ ‬360‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2023،‭ ‬ثم‭ ‬حوالي‭ ‬612‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬في‭ ‬2025،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬منتشرين‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬القتال،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الحدود‭ ‬الروسية‭ ‬–‭ ‬الأوكرانية‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬عدد‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬المتورطة‭ ‬في‭ ‬قتال‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الجبهة‭ ‬يقدر‭ ‬بحوالي‭ ‬250‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭. ‬ولا‭ ‬يتضمن‭ ‬هذا‭ ‬الرقم‭ ‬عدد‭ ‬القوات‭ ‬التي‭ ‬توفر‭ ‬التأمين‭ ‬والحماية‭ ‬للمدن‭ ‬الأوكرانية‭ ‬الأخرى‭. ‬

في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬موسكو‭ ‬قد‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬أخطائها‭ ‬السابقة،‭ ‬وشرعت‭ ‬في‭ ‬تصحيحها‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬المزهوة‭ ‬بالمكاسب‭ ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬ظنّت‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬إحراز‭ ‬نصر‭ ‬آخر‭ ‬سريع‭ ‬على‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬يفضي‭ ‬بانسحابها‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭. ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬القائد‭ ‬العام‭ ‬السابق‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬فاليري‭ ‬زالوجني،‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬أجراه‭ ‬في‭ ‬1‭ ‬نوفمبر‭ ‬2023،‭ ‬مع‭ ‬مجلة‭ ‬الإيكونوميست،‭ ‬والذي‭ ‬اعترف‭ ‬فيه‭ ‬بأن‭ ‬الوضع‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مسدود‮»‬،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬خطؤه‭ ‬الشخصي‭ ‬هو‭ ‬توقعه‭ ‬الانهيار‭ ‬السريع‭ ‬للقدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بعمليات‭ ‬تعبئة‭ ‬قوات‭ ‬إضافية‭. ‬واعترف‭ ‬زالوجني‭ ‬بفشل‭ ‬محاولات‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬في‭ ‬اختراق‭ ‬المواقع‭ ‬الروسية‭ ‬بسبب‭ ‬غرقه‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الألغام،‭ ‬وبسبب‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الفعال‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬العدو‭ ‬لتجمعات‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬مما‭ ‬سهل‭ ‬تدميرها‭. ‬وكان‭ ‬السبب‭ ‬الآخر‭ ‬للفشل‭ ‬هو‭ ‬إرسال‭ ‬ألوية‭ ‬جديدة‭ ‬ليس‭ ‬لديها‭ ‬خبرة‭ ‬قتالية‭ ‬إلى‭ ‬المعركة‭. ‬

وكانت‭ ‬هناك‭ ‬أخطاء‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬التخطيط‭ ‬العسكري‭ ‬كذلك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬وضح‭ ‬فيما‭ ‬نشرته‭ ‬صحيفة‭ ‬الواشنطن‭ ‬بوست،‭ ‬حول‭ ‬المداولات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬كبار‭ ‬القادة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وحلف‭ ‬الناتو‭ ‬حول‭ ‬التخطيط‭ ‬العسكري‭ ‬للحرب‭. ‬فقد‭ ‬انتقد‭ ‬المسؤولون‭ ‬العسكريون‭ ‬الأمريكيون‭ ‬نظراءهم‭ ‬الأوكران‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬لكاسحات‭ ‬الألغام،‭ ‬أو‭ ‬الأدخنة‭ ‬لإخفاء‭ ‬تقدم‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬باتجاه‭ ‬خطوط‭ ‬الدفاع‭ ‬الروسية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬الأوكراني،‭ ‬أوليكسي‭ ‬ريزنيكوف،‭ ‬رد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬القادة‭ ‬الميدانيين‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬القيام‭ ‬بذلك‭ ‬بسبب‭ ‬تفوق‭ ‬الروس‭ ‬وسيطرتهم‭ ‬على‭ ‬أجواء‭ ‬المعركة،‭ ‬إذ‭ ‬إنهم‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يلمحون‭ ‬فيها‭ ‬تقدم‭ ‬أي‭ ‬مدرعات‭ ‬أوكرانية‭ ‬يقوموا‭ ‬بتدميرها‭ ‬باستخدام‭ ‬كل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬المناورة‭ ‬بسبب‭ ‬كثافة‭ ‬حقول‭ ‬الألغام‭ ‬التي‭ ‬زرعها‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭. ‬وهنا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هدف‭ ‬عسكري‭ ‬استراتيجي،‭ ‬وهو‭ ‬تأكيد‭ ‬عجز‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬عن‭ ‬استعادة‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬سيطرت‭ ‬عليها‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭. ‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬فإن‭ ‬حسابات‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬موفقة،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬قام‭ ‬ببناء‭ ‬أضخم‭ ‬خطوط‭ ‬دفاعية‭ ‬عرفها‭ ‬التاريخ‭ ‬العسكري،‭ ‬وهو‭ ‬الخط‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬خط‭ ‬سوفوركين،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬سيرجي‭ ‬سوفوركين،‭ ‬القائد‭ ‬الميداني‭ ‬العام‭ ‬السابق‭ ‬للعملية‭ ‬الخاصة‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭. ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬شق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬3600‭ ‬كيلومتر‭ ‬من‭ ‬الخنادق‭ ‬وممرات‭ ‬الاتصالات‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬150‭ ‬ألف‭ ‬خندق‭ ‬ومخزن‭ ‬للمعدات،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬45‭ ‬ألف‭ ‬مخبأ،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬تجهيز‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬12‭ ‬ألف‭ ‬هيكل‭ ‬خرساني‭ ‬مسلح‭ ‬مسبق‭ ‬الصنع،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬طول‭ ‬خط‭ ‬الجبهة‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني،‭ ‬والمقدر‭ ‬بحوالي‭ ‬1500‭ ‬كيلومتر‭. ‬ووصل‭ ‬عمق‭ ‬الخطوط‭ ‬الدفاعية‭ ‬إلى‭ ‬120‭ ‬كيلومتراً،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬القيام‭ ‬بذلك‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬زمني‭ ‬يقدر‭ ‬بحوالي‭ ‬8‭ ‬أشهر‭ ‬فقط‭. ‬

في‭ ‬المرحلة‭ ‬الرابعة،‭ ‬ارتكبت‭ ‬أوكرانيا‭ ‬خطأ‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الحسابات،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إقدامها‭ ‬على‭ ‬شن‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬إقليم‭ ‬كورسك‭ ‬الروسي،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬سحب‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬المدربة‭ ‬جيداً‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬خطوط‭ ‬التماس‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬والشرق،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬شن‭ ‬هجوم‭ ‬كورسك،‭ ‬والذي‭ ‬نجحت‭ ‬كييف‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬إعلامية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إظهار‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬غزو‭ ‬أراضي‭ ‬لدولة‭ ‬عظمى،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬العسكري،‭ ‬أخفقت‭ ‬أوكرانيا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أهدافها‭ ‬الأخرى،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬إلى‭ ‬سحب‭ ‬قواتها‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬وشرق‭ ‬أوكرانيا‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬كورسك،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تقليص‭ ‬الضغط‭ ‬الروسي‭ ‬على‭ ‬مدينتي‭ ‬بوكروفسك‭ ‬وكوراخوف‭ ‬الأوكرانيتين،‭ ‬وفقاً‭ ‬لتصريحات‭ ‬القائد‭ ‬العام‭ ‬للقوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬الحالي،‭ ‬ألكسندر‭ ‬سيرسكي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬موسكو‭ ‬لم‭ ‬تبتلع‭ ‬هذا‭ ‬الطعم،‭ ‬بل‭ ‬وحافظت‭ ‬على‭ ‬قوتها‭ ‬هناك،‭ ‬وقامت‭ ‬بمواصلة‭ ‬تقدمها‭ ‬العسكري‭ ‬باتجاه‭ ‬المدينتين‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تحرير‭ ‬كل‭ ‬أراضيها‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬الأوكراني،‭ ‬وبالتالي‭ ‬خابت‭ ‬رهانات‭ ‬كييف‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬الروسية‭ ‬لمبادلتها‭ ‬بأراضٍ‭ ‬أوكرانية‭ ‬حال‭ ‬توقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬والجلوس‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬المفاوضات‭. ‬وبنهاية‭ ‬المرحلة‭ ‬الرابعة،‭ ‬كانت‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬تُعاني‭ ‬الإرهاق،‭ ‬ونقصاً‭ ‬في‭ ‬المجندين‭ ‬المدربين‭ ‬تدريباً‭ ‬جيداً،‭ ‬وفي‭ ‬الأسلحة‭ ‬والذخائر‭ ‬والمعدات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وتضاؤل‭ ‬الاحتياطيات‭. ‬كما‭ ‬تواجه‭ ‬تحديات‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬قواتها‭ ‬واستبدال‭ ‬الفرق‭ ‬المُنهكة‭ ‬بمجندين‭ ‬جدد‭. ‬وتزداد‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تراجع‭ ‬المساعدات‭ ‬العسكرية‭ ‬الغربية‭. ‬

وأخيراً،‭ ‬كانت‭ ‬موسكو‭ ‬تراهن‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬تراجع‭ ‬الدعم‭ ‬الغربي‭ ‬لأوكرانيا‭. ‬وقد‭ ‬تأكد‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬انتخاب‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي،‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬والذي‭ ‬بات‭ ‬غاضباً‭ ‬من‭ ‬حجم‭ ‬المبالغ‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬دفعتها‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬السابقة‭ ‬إلى‭ ‬كييف،‭ ‬وذلك‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتمكن‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬انتصار‭ ‬عسكري‭. ‬ولذلك‭ ‬اتجه‭ ‬ترامب‭ ‬إلى‭ ‬بحث‭ ‬فرص‭ ‬السلام‭ ‬مع‭ ‬روسيا،‭ ‬وتقليص‭ ‬المساعدات‭ ‬العسكرية‭ ‬لأوكرانيا،‭ ‬والتي‭ ‬بلغت‭ ‬حوالي‭ ‬50‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬أبريل‭ ‬2025‭. ‬

ويكشف‭ ‬العرض‭ ‬السابق‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الأطراف‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬قامت‭ ‬باتخاذ‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬الخاطئة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬موسكو‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تعديل‭ ‬خططها‭ ‬العسكرية،‭ ‬وتجنب‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬أخطاء‭ ‬جديدة،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬والتي‭ ‬تبنت‭ ‬حسابات‭ ‬خاطئة‭ ‬في‭ ‬هجومها‭ ‬المضاد‭ ‬الثاني‭ ‬لاستعادة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬المحتلة‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬هجومها‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬كورسك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الداعمين‭ ‬الغربيين‭ ‬يتوصلون‭ ‬لاستنتاج‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬باستطاعة‭ ‬القوات‭ ‬الأوكرانية‭ ‬هزيمة‭ ‬نظريتها‭ ‬الروسية،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬استكشاف‭ ‬فرص‭ ‬السلام،‭ ‬والذي‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬حده‭ ‬الأدنى‭ ‬إقرار‭ ‬كييف‭ ‬بخسارة‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬أراضيها‭ ‬لصالح‭ ‬موسكو‭. ‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الحسابات‭ ‬الخاطئة‭ ‬سوف‭ ‬تظل‭ ‬أحد‭ ‬الملامح‭ ‬الرئيسية‭ ‬للمعارك‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحالي،‭ ‬والذي‭ ‬يشهد‭ ‬فيه‭ ‬تصاعداً‭ ‬متزايداً‭ ‬في‭ ‬وتيرة‭ ‬التنافس‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭. ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفادي‭ ‬الحسابات‭ ‬الخاطئة‭ ‬تماماً،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تصحيح‭ ‬الأخطاء،‭ ‬وتبني‭ ‬تقديرات‭ ‬واقعية‭ ‬للأوضاع‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المعركة،‭ ‬وتحديد‭ ‬أهداف‭ ‬واقعية‭ ‬قابلة‭ ‬للتحقيق‭ ‬بموارد‭ ‬معقولة‭ ‬هو‭ ‬المفتاح‭ ‬لتحقيق‭ ‬النصر‭.‬

د‭. ‬شادي‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬‭‬أستاذ‭ ‬مشارك‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الدفاع‭ ‬الوطني‭

Instagram
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض