لطالما شكلت الهيمنة البحرية محدداً حاسماً في حفاظ القوى الدولية على مكانة عسكرية عالمية. ومنذ الحرب العالمية الأولى، لم يعد بمقدور السفن السطحية الحفاظ على هذه الهيمنة دون الاعتماد على الغواصات. وفي إطار التطورات التي شهدتها القدرات العسكرية الحديثة، تنامى دور الغواصات وأضحت تشكل مكوناً رئيسياً في أي هجوم بري كبير. وحتى قبل اندلاع أي مواجهات عسكرية، تظل قدرة الغواصات على الانتشار في مناطق حيوية، دون أن تُكتشف، بمثابة قيمة استراتيجية هائلة للقوى الدولية المتنافسة. في المقابل، باتت القدرة على تحييد قوة الخصوم تحت الماء تشكل هدفاً استراتيجياً للقوى الكبرى. ومن هذا المنطلق، زادت الأهمية الجيواستراتيجية للحرب المضادة للغواصات، وبدأت القوى الدولية المتنافسة توظيف التطورات التكنولوجية والقدرات البحرية الجديدة لتعزيز التفوق في هذه الحرب.
لا يزال الجدل قائماً بين الأدبيات المختلفة بشأن تأريخ تصميم أول غواصة، إذ يرجعها البعض للغواصة التي صممها «وليام بورن» في عام 1578، بينما يربطها آخرون بالغواصة التي جربها «كورنيليوس جاكوبزون دريبل» في نهر التايمز عام 1620، لكن الكثير من الأدبيات تتفق على أن أول غواصة تم استخدامها بالفعل في الحرب كانت غواصة «السلحفاة»، التي صممها «ديفيد بوشنيل» عام 1775. أما أول غواصة حديثة فثمة إجماع بين الأدبيات على أنها تنسب لـــ «جون فيليب هولاند». وقد سُجل الاستخدام الأول الفعال للغواصات في الحروب خلال الحرب العالمية الأولى، عندما تمكنت الغواصة الألمانية «U-9» من إغراق عدد من البوارج البريطانية، في 22 سبتمبر 1914، كما لعبت غواصات «Unterwasser Boat» دوراً كبيراً في هذه الحرب، وهو ما شكل نقطةً فاصلةً في ديناميكيات الحروب البحرية، حيث أظهرت الغواصات قدرة استثنائية على تحقيق المفاجأة للخصوم، ومن ثم التأثير بشكل حاسم على مسار الحروب، وهو ما عزز من دور الغواصات كفاعل حيوي في المجال البحري، الأمر الذي أعاد هيكلة طبيعة الاشتباكات والحروب البحرية.
تجدر الإشارة إلى أن الأهمية الاستراتيجية للغواصات تنبثق بالأساس من سماتها المميزة، والمتمثلة في الصمت والسرية. فعلى عكس السفن السطحية، التي تبحث عن أهدافها وتحدد مواقعها ثم تشتبك معها، فإن الغواصات تتبنى نهجاً تشغيلياً أكثر استراتيجيةً، إذ أنها تنصب شباكها كالعناكب، وتنتظر أهدافها بصبر كبير.
وفي بدايات استخدام الغواصات في الحروب، لم تكن هناك طريقة فعالة لاكتشافها بمجرد أن تغوص تحت سطح الماء، فقد اعتبرها «جون هولاند» بمثابة «الشبح البحري»، لذا اعتمدت التكتيكات الأولية لمواجهة الغواصات في هذه المرحلة على محاولة إجبار الغواصة على الصعود للسطح لمهاجمتها كما لو كانت سفينة، امتداداً لتكتيكات القتال بين السفن الحربية، وهو النهج الذي ساد خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الغواصات تحتاج إلى الصعود للسطح بشكل متكرر.
وخلال الحرب العالمية الثانية، تم تطوير أدوات جديدة للحرب المضادة للغواصات، لا سيما مع تنامي قدرة الغواصات على الغوص لأعماق أكبر والاستمرار لفترة أطول تحت سطح الماء، لذا تم استخدام «السونار النشط» (ASDIC) لرصد البصمة الصوتية للغواصة، وتحديد موقع الهدف، وهو ما شكل أساس الحرب المضادة للغواصات، إلى جانب قنابل العمق، خلال هذه الفترة. كذا، بدأ استخدام الطائرات في دور صائدي الغواصات، من خلال استخدامها أسلحة مضادة للغواصات، حيث تم تطوير رادار الطائرات ليصبح من أكثر الأدوات فعاليةً في مطاردة الغواصات. لكن في المقابل، تطورت قدرة الغواصات وأصبحت أكثر هدوءاً وقدرةً على المناورة، والاستمرار تحت سطح البحر لفترات أطول، وهو ما فرض الحاجة لتكتيكات جديدة مضادة للغواصات خلال حقبة الحرب الباردة، لذا ظهرت الطوربيدات الموجهة والأكثر تطوراً، على غرار «مارك 48»، والتي تحدد الأهداف من خلال رصد إشارات الضوضاء الخاصة بالغواصات عن طريق استخدام اجهزة استشعار، كما تم تطوير أنظمة أكثر تطوراً، كنظام «المراقبة الصوتية» (SOSUS)، والذي يعتمد على مصفوفات هيدروفون مثبتة في قاع البحار، يتم توصيلها بكابلات بحرية إلى منشآت على الشاطئ، ومن ثم الكشف عن مواقع الغواصات.
ومن هذا المنطلق، تعد الحرب المضادة للغواصات (ASW) محدداً رئيسياً في العمليات البحرية، وهي مصصمة بالأساس لكشف الغواصات المعادية وتتبعها وتحييدها. ويبقى الهدف الرئيسي لعمليات (ASW) هو محاولة منع غواصات الخصوم من تحقيق أهدافها، سواء تلك المتعلقة بمهاجمة السفن السطحية، أو إطلاق الصواريخ، وكذا تعطيل خطوط الإمداد. وفي ظل التطورات التكنولوجيا التي عززت من قدرة الغواصات، وجعلتها أكثر هدوءاً وسرعة، ناهيك زيادة قدرتها على الفتك، تطورت أدوات الحرب المضادة للغواصات، حتى أضحت مجالاً أكثر تعقيداً وتشابكاً.
وتنطوي الحرب المضادة للغواصات على جملة من المكونات الرئيسية، تتمثل فيما يلي:
-1 الكشف والتتبع: يتمثل المحدد الرئيسي للأنظمة المضادة للغواصات في القدرة على كشف وتتبع الغواصات المعادية، لا سيما تلك المصممة للعمل في الخفاء، ويعد السونار هو الأداة الرئيسة للكشف تحت سطح الماء، حيث يصدر السونار النشط موجات صوتية تنعكس على هيكل الغواصة، بينما يرصد السونار السلبي الأصوات الصادرة عن الغواصة، كأصوات المحرك. وقد تم تطوير أنظمة حديثة للسونار، كالمصفوفات المقطورة وأجهزة الاستشعر المثبتة على هياكل الأنظمة غير المأهولة. وإلى جانب السونار، هناك عدة آليات أخرى للكشف عن الغواصات، لعل أبرزها «أنظمة كشف الشذوذ المغناطيسي» (MAD)، والتي تستخدم غالباً من خلال الطائرات لكشف اضطرابات المجال المغناطيسي للأرض، والناتجة عن هيكل الغواصة. كذا، هناك «أنظمة الكشف بالأشعة تحت الحمراء أو المراقبة البصرية»، وكذا «أجهزة الاستشعار غير الصوتية»، كتقنيات (LIDAR)، التي تعتمد على الليزر، لتحديد هوية الغواصات المعادية، عن طريق تحليل الاضطرابات السطحية.
-2 منصات الحرب المضادة للغواصات: تنطوي أنظمة الحرب المضادة للغواصات على مجموعة متنوعة من المنصات الرئيسة، تتمثل أبرزها فيما يلي:
• السفن السطحية: إذ تشكل الفرقاطات والمدمرات والطرادات المزودة بأجهزة السونار والصواريخ المضادة للغواصات والطوربيدات المكون الأساسي لأنظمة الحرب المضادة للغواصات، وقد بدأت هذه السفن السطحية تعمل على نشر طائرات بدون طيار لتوسيع نطاق استشعارها لاكتشاف وتتبع الغواصات المعادية.
• الطائرات: حيث تقوم طائرات الدوريات البحرية بنشر أجهزة سونار وطوربيدات بهدف تغطية مساحات كبيرة من البحار والمحيطات. من ناحية أخرى، تساعد المروحيات التي تعمل على متن السفن على توفير قدرات استجابة سريعة مضادة للغواصات.
• الغواصات: تبقى الغواصات أحد أبرز المنصات الفعالة لمكافحة الغواصات، فهناك غواصات هجومية يتم تصميمها بالأساس لاصطياد غواصات الخصوم، حيث يتم تزويدها بأجهزة استشعار متطورة وتقنيات عالية للتخفي، تمكنها من تتبع الخصوم والاشتباك معها.
• الأنظمة غير المأهولة: شهدت السنوات الأخيرة تنامي استخدام الأنظمة غير المأهولة في الاستراتيجيات الحديثة للحرب المضادة للغواصات، بما في ذلك المركبات الجوية غير المأهولة (UAVs)، والسفن السطحية غير المأهولة (USVs)، والمركبات تحت الماء غير المأهولة (UUVs).
-3 أنظمة الأسلحة للحرب المضادة للغواصات: هناك مجموعة متنوعة من الأسلحة التي تستخدم لتحييد الغواصات، فبمجرد اكتشاف الغواصة، تبدأ الأنظمة المضادة للغواصات في استخدام أنواع مختلفة في الأسلحة، منها الطوربيدات الخفيفة، التي تطلق من السفن والطائرات، والثقيلة، التي تطلق من الغواصات. أيضاً، هناك الصواريخ المضادة للغواصات، على غرار أنظمة (ASROC) الأمريكية، والألغام الهجومية التي يتم نشرها في المناطق الاستراتيجية. بالإضافة لذلك تبقى القنابل العميقة، رغم تراجع وتيرة استخدامها، أداة قابلة للاستخدام ضد الغواصات.
نهج قابل للتطوير
من خلال الطرح السابق، تعود أصول الحرب المضادة للغواصات إلى الحرب العالمية الأولى، عندما برزت الغواصات كتهديد كبير لسفن الحلفاء، وتنامى دور هذه العمليات خلال الحرب العالمية الثانية، استجابةً للتطورات المرتبطة بالسونار وقنابل الأعماق وأنظمة القوافل المنسقة، التي استهدفت تكتيكات «زمرة الذئاب» الخاصة بالغواصات. كذا، شهدت حقبة الحرب الباردة تسارع وتيرة الابتكارات الخاصة بالحرب المضادة للغواصات، فقد طرحت الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، وتلك المزودة بالصواريخ الباليستية، تحديات استراتيجية جديدة تتعلق بمكافحة الغواصات.
أيضاً، شهدت السنوات الأخيرة تزايد صعوبة اكتشاف الغواصات الحديثة، وهو ما يعزى إلى التطورات المتنامية في تقنيات التخفي والهدوء، على غرار أنظمة «الدفع المستقل عن الهواء» (AIP)، والطلاءات المتطورة للهياكل، والتي تقلل البصمة الصوتية للغواصات. ناهيك عن التحديات الأكثر تعقيداً والتي تفرضها الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، بسبب قدرتها على العمل لفترات طويلة تحت الماء، وتلك التي تعمل بالكهرباء والديزل، لكنها مزودة بقدرات محسنة للتخفي.
من ناحية أخرى، تمثل البيئة البحرية ذاتها عوامل مضاعفة للتعقيدات التي تواجه الحرب المضادة للغواصات، والتي ترتبط بتدرجات الملوحة والضوضاء الناجمة عن الحياة البحرية والشحن البحري، فضلاً عن الطبقات الحرارية للمحيطات والبحار، الأمر الذي قد يساعد على حجب بصمات الغواصات، كما تمثل المناطق الساحلية والمياه الضحلة تحدياً خاصاً لعمليات مكافحة الغواصات، بسبب الأصوات المرتفعة.
وانطلاقاً من هذا الطرح، شهدت استراتيجيات الحرب المضادة للغواصات تطورات متزايدة عبر السنوات، لا سيما في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة خلال السنوات الأخيرة، وذلك من خلال الاستخدام المتنامي للذكاء الاصطناعي وأنظمة التعلم الآلي، والتي ساعدت في تحسين معالجة بيانات السونار، وتمييز إشارات الغواصات عن الأصوات البحرية الأخرى، بل والتنبؤ بسلوك الغواصات، استناداً للبيانات التاريخية، ومن ثم تحسين كفاءة التتبع. كذا، زاد اعتماد الحرب المضادة للغواصات على دمج البيانات المنبثقة من منصات متعددة، والتي تنشئ شبكة من الأنظمة، على غرار نظام «المراقبة البحرية المتكامل» (IUSS) التابع للبحرية الأمريكية. بالإضافة لذلك، ساعد الاعتماد المتزايد على الأنظمة غير المأهولة في توفير الانتشار والعمل في بيئات أكثر خطورة ودعم أنظمة المراقبة الأكثر استدامة. على جانب آخر، تشير بعض التقارير إلى أن أجهزة الاستشعار الكمومية الناشئة ستوفر درجة غير مسبوقة من الحساسية لاكتشاف الغواصات، الأمر الذي قد يفضي إلى ثورة في مجال الحروب المضادة للغواصات.
الأهمية الاستراتيجية
في إطار التنافس الدولي المتزايد للهيمنة على المجال البحري، والتي تلعب فيها الغواصات البحرية دوراً محورياً، لم يعد بإمكان البحرية السطحية الاعتماد على الأساليب التقليدية لكشف وتتبع غواصات الخصم أو المركبات البحرية غير المأهولة، لذا يعالج هيكل «العمليات البحرية الموزعة» Distributed Maritime Operations (DMO) هذه التحديات، وذلك عن طريق تصور السفن الغواصات والمنصات التي تعمل بشكل مستقل أو في إطار مجموعات صغيرة.
وتستهدف «العمليات البحرية الموزعة» تعقيد استراتيجيات وعي الخصوم بالوضع واستراتيجيات الاشتباك، وذلك عن طريق نشر وتوزيع القوات البحرية على نطاق عملياتي واسع، قد يمتد لمئات الأميال بين المركبات البحرية المختلفة. وفي هذا السياق، عمدت شركة (Thales Defense & Security) TDSI إلى تطوير مفاهيم جديدة لـ «الحرب المضادة للغواصات الموزعة»، وذلك لدعم قوة بحرية أكثر انتشاراً ومرونة، بإمكانها تبادل سريع لمعلومات الحرب المضادة للغواصات، مع تنسيق الاستجابات عبر ساحة معركة واسعة، من خلال الاستفادة من الأنظمة المستقلة، وأجهزة الاستشعار والاتصالات المتقدمة، بالإضافة لأجهزة الاستشعار الشبكية.
بالتالي، ترتكز الحرب المضادة للغواصات الموزعة على شبكة من أجهزة الاستشعار والمؤثرات الأصغر والأكثر انتشاراً، والتي تثبت على منصات بحرية ذاتية التشغيل، بتكلفة معقولة، وكميات كبيرة، وذلك بهدف إنشاء هيكل مرن وقابل للتكيف، مع ضمان تكامل أجهزة الاستشعار المتقدمة، وأنظمة الاتصالات وهياكل القيادة، ودمج المنصات المأهولة وغير المأهولة، وجمع البيانات من منصات متعددة، بما يوفر لمتخذي القرار صورة شاملة للمشهد تحت سطح البحر.
وتجدر الإشارة إلى أن الحرب المضادة للغواصات الموزعة باتت تشكل محدداً حيوياً في البيئات البحرية المتنازع عليها، ففي ظل الاستثمارات الهائلة من قبل القوى الدولية المتنافسة في تعزيز قدرات غواصاتها المتقدمة، تعمل هذه الدول أيضاً على توزيع قدرات الحرب المضادة للغواصات على منصات متعددة، مما يصعب على الخصوم فكرة تعطيل العمليات البحرية. فمن شأن الأنظمة المضادة للغواصات الموزعة أن تعزيز هذه الرؤية، من خلال تعزيز قدرات الوعي والاستجابة في المجال البحري، بما يزيد من فرص حسم الصراعات عالية المستوى.
منطقة الإندوباسيفيك
تشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك)، خلال العقد الأخير، سباق تسلح خاص بالغواصات، ففي عام 2019، كانت 75 % من غواصات العالم غير الأمريكية منتشرة في هذه المنطقة. كما تعد الغواصات إحدى أكثر المنصات البحرية تنوعاً في تشكيل القوات البحرية الحديثة، وهو الأمر الذي تدركه القوى الدولية المتنافسة، فعلى سبيل المثال، تعمل الصين على زيادة عدد الغواصات العاملة في قواتها البحرية من 66 غواصة إلى 76 غواصة بحلول عام 2030. كما عمدت البحرية الأمريكية إلى زيادة تركيز عملياتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أثار العديد من التساؤلات بشأن كيفية إجراء عمليات الحرب المضادة للغواصات بفعالية عبر مساحات شاسعة، لا سيما في ظل استراتيجية منع الدخول/ منع الوصول الصينية.
وتتبع الولايات المتحدة في عملية تتبع الغواصات في منطقة الإندوباسيفيك سلسلة من الخطوات، تبدأ بتوفير اتصال أولي من خلال شبكة هيدروفون تحت سطح الماء، على غرار نظام المراقبة البحرية المتكامل (IUSS)، ورغم أن هذه الشبكة قادرة على تحديد دقيق للغواصات في دائرة نصف قطرها يبلغ حوالي 97 كيلومتراً (60 ميلاً)، لكنها تعتمد بالأساس على إرسال الإشارات لوسائل الكشف الأخرى. وعندما تقوم مصفوفة ثابتة بارسال إشارات، يتم إرسال طائرة دوريات بحرية لتحديد موقع الهدف، مستخدمة السونار أو أجهزة استشعار أخرى، مثل كاشف الشذوذ المغناطيسي. وقد تحاول الطائرة ملاحقة الهدف، عن طريق استخدام طوربيدات خفيفة الوزن، كطوربيد (MK-54)، كما يمكنها نقل الاتصال إلى منصة تتبع أخرى، كالغواصة أو الفرقاطة.
وتنطوي هذه المقاربة على تحديين رئيسيين، يتمثل الأول في حاجة كل اتصال لتشغيل عدة أصول تتبع، مما يزيد من صعوبة عملية التوسع، فعلى سبيل المثال، تحتاج طائرات الدوريات البحرية (MPA) إلى إبقاء نحو 12-14 طائرة دورية بحرية من طراز (P-8) لتوفير تغطية مستمرة، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه. أما التحدي الثاني فيتمثل في اعتماد هذه المقاربة على الأصول القادرة على القيام بدوريات بحرية، وإذا دعت الحاجة إلى احتواء تهديدات غواصة بالقرب من مجال جوي متنازل عليه، فإن هذه المقاربة ستصبح غير قابلة للتطبيق. وهذه الوضعية تنطبق فعلياً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ تتطلب عملية احتواء إحدى الغواصات الصينية عند نقاط الاختناق، كقناة باشي، أن تعمل طائرات الدوريات البحرية (MPA) الأمريكية في المجال الجوي الذي يهيمن عليه الجيش الصيني.
في المقابل، ورغم عدم استثمار العديد من القوات البحرية في الصواريخ المضادة للغواصات بعيدة المدى (ASROC)، بيد أن الصين تعد من الاستثناءات القليلة في هذا الشأن، تمكنت البحرية الصينية من نشر صاروخ (YU-8)، الذي يصل مداه لحوالي 50 كيلومتراً. وكانت الصين قد خصصت موارد كبيرة خلال العقدين الماضيين لبناء قوة بحرية قادرة على منافسة الهيمنة البحرية للولايات المتحدة، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ورغم سرعة التقدم في العديد من المجالات، لكن القدرات تحت سطح الماء ظلت تمثل نقطة ضعف نسبية في القدرات البحرية الصينية. لكن هذه الفجوة بدأت تضيق بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة، فرغم أن أنظمة الصين للحرب المضادة للغواصات لا تزال تفتقر للخبرة العملياتية التي تتمتع بها نظيرتها الأمريكية، بيد أن القوة البحرية الصينية بدأت في بناء نظام متعدد الطبقات للحرب المضادة للغواصات، يتوقع أن يسهم في سد الفجوة مع نظيرتها الأمريكية.
وإلى جانب الاعتماد على التكتيكات المتطورة، ومهارات متقدمة للمشغلين، فالنهج الصيني للحرب المضادة للغواصات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يستند إلى استراتيجية شاملة تركز على أجهزة الاستشعار المتقدمة والاستجابة السريعة. وتعتمد البحرية الصينية بدرجة كبيرة على أنظمة السونار النشط لمواجهة تخفي الغواصات المعادية، وذلك خلافاً للاستراتيجية الغربية التي تعتمد أكبر على السونار السلبي، كما تعمل الصين للتفوق على مزايا التخفي والهدوء التي تتمتع بها الغواصات الأمريكية وحلفائها. وتستند الاستراتيجية الصينية إلى النشر الواسع لسفينة «كورفيت» من طراز (056A)، وهي مركبة محسنة صممت للحرب المضادة للغواصات، ومزودة بسونار متغير العمق (VDS)، والذي يتحقق التكامل مع مروحية (Z-9)، ورغم الحمولة المحدودة لهذه المروحية، لكنها توفر ناقلاً جوياً لنشر السونار وكشف التهديدات، كما يساعد صاروخ (YU-8) من توسيع مدى سفينة «كورفيت»، وهو ما يتيح الفرصة للاشتباك عن بعد دون الحاجة إلى أن تضطر المروحية من حمل طوربيداتها الخاصة. بالإضافة لذلك، عمدت البحرية الصينية إلى التوسع في استخدام المركبات البحرية غير المأهولة لتوسيع شبكة استشعارها.
الاستعداد للمعركة المستقبلية
عادت الحرب المضادة للغواصات (ASW)، والتي لطالما كانت مجالاً للمناورات خلال الحرب الباردة، واقتصرت على مشغلي السونار وقادة السفن الحربية، لتبرز كنقطة ارتكاز رئيسية لسياسات القوة في العقد الأخير، غير أن قواعد اللعبة بدأت تتغير بشكل كبير في الوقت الراهن، حيث تشهد هذه الحرب تحولاً جذرياً، في ظل التطورات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والمنصات ذاتية التشغيل، فضلاً عن تكامل البيانات الآنية، وهو ما ساعد في تعزيز القدرة على كشف الغواصات وتتبعها وتحييدها.
وفي الوقت ذاته، تظهر بعض القوى الدولية قدرات هائلة فيما يتعلق بالغواصات، لعل أبرزها الغواصات الروسية الأسرع من الصوت، كغواصة « Yasen-M» وكذا الغواصات الصينية التي تركز على الهيمنة على الممرات البحرية الحيوية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي هذا السياق، أشارت بعض التقارير الأمريكية إلى أن قدرات الغواصات الروسية والصينية باتت تتجاوز التوقعات، وتتحدى التدابير المضادة التقليدية، ما يعني الحاجة إلى تحول في الاستراتيجية الأمريكية من الرصد إلى التحييد السريع، ناهيك عن أهمية تحالفات واشنطن الإقليمية في مواجهة هذه التهديدات، لا سيما في ظل وجود غواصات «سوريو» اليابانية، وغواصات «كولينز» الأسترالية.
وفي هذا الإطار، طرحت بعض التقارير الأمريكية توصيات لاستعادة التفوق في مجال الحرب المضادة للغواصات، وذلك من خلال التركيز على العمليات الهجومية، وزيادة الاعتماد على الأنظمة غير المأهولة وأنظمة «الحرب المضادة للغواصات الموزعة» في العثور على الغواصات المعادية وتتبعها وتحييدها. حيث توفر التقنيات المتطورة للمركبات المستقلة، وكذا شبكات الاتصالات وأجهزة السونار القابلة للنشر، فرصاً هائلة لاكتشاف غواصات الخصوم وتتبعها، حيث تستغل هذه الاستراتيجيات الهجومية نقاط الضعف في الغوصات المعادية، وتسمح لقوات الحرب المضادة للغواصات بقمع غواصات الخصم بفعالية أكبر وتكلفة أقل، مقارنة بالاستراتيجيات التقليدية للحرب المضادة للغواصات.
وتركز الاستراتيجية الهجومية التي اقترحتها التقارير الأمريكية لتطوير أنظمة الحرب المضادة للغواصات على نقاط الاختناق والمياه الإقليمية للخصوم، وهو ما سيؤدي إلى تقليل التهديد في المحيطات المفتوحة، من خلال مراقبة أكثر فاعلية للغواصات، وشن هجمات سريعة ضدها حال اندلاع أي صراع. بالتالي، يعتمد الاستعداد للمعركة المستقبلية للحرب المضادة للغواصات على دمج التقنيات الناشئة والحديثة مع الأنظمة التقليدية، فبينما تلعب الأنظمة المستقلة، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، دوراً محورياً في تعزيز استمرارية المراقبة والاشتباكات، يمكن للأسلحة الأسرع من الصوت وأنظمة الطاقة الموجهة أن تزيد من القدرة على تحييد الغواصات على مسافات بعيدة.
ورغم ذلك، تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون العديد من التحديات للتحول إلى استراتيجية جديدة للحرب المضادة للغواصات، يتعلق أبرزها بالتكلفة الباهظة للمشتريات وتشغيل الأنظمة التقليدية الراهنة للحرب المضادة للغواصات، والتي تركز بالأساس على الأنظمة المأهولة، ومع ثبات ميزانيات الدفاع، وربما انخفاضها، سيحول ذلك دون تبني مفاهيم جديدة للحرب المضادة للغواصات، تعتمد أكثر على الأنظمة غير المأهولة.
وفي الختام، لا تزال الغواصات تشكل ركيزة أساسية في الاستراتيجيات البحرية ومستقبل الحروب الحديثة، وبالتزامن مع التطورات المتلاحقة لقدرات الغواصات، تعمل القوى الدولية على تعزيز الأنظمة المضادة للغواصات، بالتالي، يعتمد مستقبل الحروب المضادة للغواصات على مدى قدرة الدول على استباق التطورات، ونجاحها في دمج أحدث التقنيات في الأنظمة القائمة بالفعل، مع دعم قدرات الاستشراف الاستراتيجي، من خلال الاعتماد على الخوارزميات ومنطق الآلة.
عدنان موسى مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة