تشهد تكنولوجيا المقاتلات الجوية تطوراً مستمراً، في ظل الدور المحوري للهيمنة الجوية في حسم الصراعات والحروب الكبرى. لذا فثمة تنافس حاد بين القوى الدولية لتعزيز قدرات مقاتلاتها الجوية لتحقيق التفوق في ساحات المعارك الحديثة. وفي هذا الإطار تصاعد الحديث عن مقاتلات الجيل السادس باعتبارها الخيار الأفضل لتحقيق التفوق الجوي الحاسم في الحروب المستقبلية.
وهو ما انعكس في إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في مارس 2025، عن استئناف برنامج «الجيل التالي للهيمنة الجوية» (NGAD) بهدف تطوير مقاتلات أمريكية من الجيل السادس، وذلك بالتزامن مع كشف الصين عن خطوات متقدمة لتطوير مقاتلاتها من الجيل ذاته، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات بشأن ماهية هذه المقاتلات، ومدى تفوقها على مقاتلات الجيل الخامس، وحدود التنافس الدولي الراهن لتطوير هذا الجيل من المقاتلات، فضلاً عن الدور الذي يمكن أن تلعبه في تحقيق الهيمنة الجوية في الحروب المستقبلية.
ماهية وسمات مقاتلات الجيل السادس
يعكس تاريخ تطور المقاتلات الجوية مدى الابتكار المستمر المدفوع بتطلعات وأهداف القوى الدولية المختلفة ورغبتها في حسم التفوق الجوي. وفي هذا السياق يتم تصنيف هذه الطائرات من حيث التطور والقدرات المختلفة لها إلى عدة أجيال، بدأ الجيل الأول مع نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال الطائرات النفاثة الرائدة، بدايةً من الطائرة الألمانية «ميسرشميت 262»، وامتاز هذا الجيل بالمحركات النفاثة كبديل عن المحركات الدوارة والمحركات المكبسية. ثم ظهرت مقاتلات الجيل الثاني، خلال الخمسينات من القرن الماضي، مستخدمة صواريخ جو – جو بدلاً من المدافع الرشاشة. ومع مطلع السيتينات تم تطوير طائرات الجيل الثالث بسرعات عالية للغاية من خلال أجنحة متغيرة هندسياً. بينما تميزت طائرات الجيل الرابع، التي ظهرت في منتصف السبعينات، بمهام متعددة وقدرة عالية على المناورة والتحكم السلكي. وبداية من التسعينات، بدأ ظهور مقاتلات الجيل الخامس والتي تجمع بين قدرات متعددة الأدوار وقدرة عالية على المناورة، بالإضافة لسرعة تفوق سرعة الصوت، مع إمكانية التخفي. في المقابل، ستتميز مقاتلات الجيل السادس بخصائص غير محدودة، تتفوق على قدرات الأجيال السابقة، من خلال امتلاكها قدرات قتال إلكترونية متقدمة، والقدرة على القتال خارج مدى الرؤية ودعم الطيارين بالذكاء الاصطناعي.
بالتالي، تستهدف مقاتلات الجيل السادس الجمع بين مزايا الأجيال السابقة، لا سيما قدرات مقاتلات الجيل الخامس التي تتمتع بإمكانية التخفي والطيران الأسرع من الصوت والمناورة الاستثنائية، بل وتطوير هذه القدرات بشكل ملحوظ، مع تزويد المقاتلات بتقنيات حديثة للغاية. يتمثل أبرزها فيما يلي:
- مستويات عالية من الاستقلالية: يتوقع أن تتميز مقاتلات الجيل السادس بدرجة عالية من الاستقلالية مقارنة بالأجيال السابقة من المقاتلات، الأمر الذي سيمكنها من القيام بمهام أكثر تعقيداً مع تدخل بشري أقل، ومن ثم تعزيز مستويات كفاءة العمليات مع خفض المخاطر المرتبطة بالطيارين.
- قيادة أسراب من الطائرات المسيرة: ستعمل مقاتلات الجيل السادس على قيادة أسراب من الطائرات المسيرة بدون طيار في المعارك المستقبلية التي تعتمد على الشبكات. وبسبب تزويد هذه المقاتلات بمجموعة من الطائرات المسيرة الداعمة، فإنها ستشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لقدرة القوات الجوية على الدفاع.
- الحروب القائمة على الشبكات: يعتمد تعريف الجيل التالي على وضع المقاتلة في سياق عملياتي مختلف، فعلى سبيل المثال صممت مقاتلات الجيلين الرابع والخامس لمهام مختلفة، فقد صممت مقاتلات الجيل الرابع لتكون عالية القدرة على المناورة وتنفيذ ضربات على مسافات طويلة، في المقابل تم تصميم طائرات الجيل الخامس للتركيز على مهام التخفي واستخدامها لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي المتكاملة لتحييد الأهداف. ومن هذا المنطلق، يعكس السياق التشغيلي لمقاتلات الجيل السادس أنها مصممة للعمل مع المركبات الجوية ذاتية القيادة، الأمر الذي سيوفر منظومة قتالية تعاونية تشكل جزءاً من شبكة عمل جماعية مأهولة وغير مأهولة. ورغم أن مقاتلات الجيل الخامس كانت تعتمد على الأنظمة الشبكية بشكل كبير، بيد أن مقاتلات الجيل السادس تتبني فكرة الحرب القائمة على الشبكات (Network – Centric Warfare)، حيث تتكامل المقاتلات مع شبكة أوسع من البيانات، وتصبح جزءاً من هذه الشبكة التي تضم مجموعة واسعة من الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة وأجهزة الاستشعار وغيرها من الموارد، الأمر الذي سيعزز القدرة على اتخاذ قرارات أكثر دقة وفي الوقت الفعلي، وهو ما سيُحدث نقلة نوعية في الأداء وفي تكامل الأسلحة.
- الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي: يعد إحدى أبرز السمات التي ستميز مقاتلات الجيل السادس هو استخدامها الواسع والمعقد للذكاء الاصطناعي وتوظيفه من أجل تحسين كيفية معالجة البيانات الهائلة التي تستقبلها مستشعراتها، كما ستتمكن الأسلحة الذكية في مقاتلات الجيل السادس من التواصل مع بعضها بعضاً داخل ساحات المعركة، مع قدرات فائقة على تكييف أهدافها أثناء الطيران، وهو ما سيدعم الطيارين لاتخاذ قرارت أكثر تعقيداً وفي ظل ظروف قتالية وبيئية متباينة.
التنافس الدولي لتطوير مقاتلات الجيل السادس
ثمة تنافس دولي حاد، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، لتطوير مقاتلات الجيل السادس، حيث تسعى واشنطن حالياً إلى تطوير مقاتلتها من الجيل السادس، تسمى (F-47)، لتحل مكان المقاتلة الشبحية (F-22 Raptor)، ويتوقع أن تتميز الأولى بتصميم كبير نسبياً وعالي الأداء وبعيد المدى، مع قدرة أكبر على التخفي، بالإضافة لتزويدها بمجموعة من أجهزة الاستشعار المتقدمة وقدرات متقدمة لخوض الحروب الإلكترونية. غير أن برنامج تطوير هذه المقاتلة يعد مكلفاً للغاية، حيث تقدر تكلفة تطوير هذا البرنامج بحوالي 20 مليار دولار، كما يتوقع أن تبلغ تكلفة المقاتلة الواحدة حوالي 300 مليون دولار، ولعل هذا ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، في منتصف عام 2024، لتعليق برنامج «الجيل التالي للهيمنة الجوية» (NGAD)، الذي يستهدف تطوير هذه المقاتلة.
لكن يبدو أن حاجة الولايات المتحدة لمقاتلة من الجيل السادس في أي صراع محتمل في الإندوباسيفيك دفعت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، لإستئناف برنامج (NGAD)، وذلك على الرغم من اتجاه الإدارة الأمريكية الحالية لخفض التكاليف الحكومية، بما في ذلك خفض مليارات الدولارات من برامج الدفاع الحالية. فقد أعلن ترامب، في 21 مارس 2025، أن البنتاجون قد منح شركة «بوينج» عقد إنتاج وتطوير الجيل التالي من برنامج (NGAD). وتجدر الإشارة إلى أن برنامج (NGAD) عادةً ما يستخدم للإشارة إلى المقاتلة المأهولة من الجيل السادس، بيد أن هذا البرنامج ينطوي بالأساس على مبادرة أوسع نطاقاً، حيث تشمل أيضاً تطوير طائرات بدون طيار من طراز «طائرات القتال التعاونية» (CCA) المستقلة، بالإضافة لمحركات نفاثة جديدة وأجهزة استشعار وأنظمة حرب إلكترونية وغيرها.
ووفقاً للتصاميم الفنية التي نشرتها القوات الجوية الأمريكية لمقاتلة الجيل السادس «F-47»، تتوافق هذه التصاميم مع الاتجاه العام لتطوير طائرات الجيل السادس، حيث تتميز هذه المقاتلة بذيول غير عمودية وتصميم جناح طائر أسرع من الصوت، لتحسين قدرتها على التخفي في كافة الاتجاهات، مع تميزها بأنف مسطح وجسم قابل للرفع، بالإضافة لميزة التعاون بين الأنظمة المأهولة وغير المأهولة. ورغم ذلك، تشير هذه التصاميم إلى وجود زوج من الأجنحة أمام الأجنحة الرئيسة للمقاتلة، الأمر الذي يتوقع أن يؤثر على قدرتها على التخفي، كما تم استبدال الذيول العمودية بأجنحة كانارد التقليدية المستخدمة في الأجيال السابقة للمقاتلات بدلاً من الاعتماد على آليات جديدة أكثر تطوراً.
لكن، يعكس تصميم المقاتلة (F-47) أن حجمها الإجمالي ليس أكبر بكثير من (F-22)، ما يعني أن (F-47) لا تزال تعد مقاتلة تكتيكية، وليست منصة جوية متعددة الأغراض، قادرة على تنفيذ مهام واسعة النطاق. كما وُجهت بعض الانتقادات لاختيار شركة «بوينج» لتطوير هذه المقاتلة من الجيل السادس، بدعوى افتقار الشركة للقاعدة التقنية اللازمة لتطوير أساليب جديدة للتحكم، خاصةً وأن الشركة لم تفز بأي برنامج رئيسي للطائرات المقاتلة منذ عقود.
وعلى عكس البرنامج الأمريكي لمقاتلات الجيل السادس الذي لم يدخل بعد مرحلة النموذج الأولى، يبدو أن الصين بدأت بالفعل في الاختبارات الأولية لمقاتلاتها من الجيل السادس. ففي 26 ديسمبر 2024، تم الكشف عن مقاتلتين صينيتين جديدتين من الجيل السادس، إحداهما كبيرة الحجم تم تصويرها فوق مدينة «تشنغدو الغربية»، موطن شركة «تشنغدو إيروسبيس» الصينية المتخصصة في تطوير المقاتلات، أطلقت بعض التقارير على هذه المقاتلة اسم «J-36»، ويبلغ طولها حوالي 23 متراً، وباع جناحيها 19 متراً، ومساحة جناح واسعة تصل لنحو 200 متر مربع. أما المقاتلة الأخرى، وهي الأصغر حجماً، فقد ظهرت في سماء «شتيانغ»، وأطلق عليها البعض اسم «J-50». وقد عكس تصميم المقاتلتين بعض المميزات الخاصة بمقاتلات الجيل السادس، كعدم وجود مثبتات عمودية وهيكل أجنحة مدمج. ورغم الغموض الذي لا يزال يهيمن على المقاتلتين الصينيتين الجديدتين، بيد أن هناك بعض التقارير أشارت إلى أن المقاتلة «J-36» تتميز بتصميم غير اعتيادي ثلاثي المحركات، بالإضافة لثلاثة مداخل هواء ومنافذ دفع ظاهرة، وتصميم معد للطيران الأسرع من الصوت والقدرة على التخفي، بالإضافة لامتلاك المقاتلة حجرة أسلحة داخلية مركزية كبيرة، بطول 7.6 متر، بالإضافة لحجيرات جانبية، ما يرجح أن تكون هذه المقاتلة عبارة عن منصة جديدة ذات اختراق عميق.
وقد كشفت بعض التقارير أن مقاتلتي بكين من الجيل السادس تتفوق على التقنيات الأمريكية والروسية الحالية، من خلال اعتمادها على الذكاء الاصطناعي، وتحسين قدرات التخفي وسرعتها الفائقة لسرعة الصوت، وتزويدها بأسلحة أكثر تطوراً. بالإضافة لذلك، يمكن لقدرات توليد الطاقة للمقاتليتين الصينيتين من الجيل السادس توليد حوالي 1 ميجاوات، كما يتوقع أن يحدث نظامهما الشبكي المتكامل تغييراً جذرياً في ديناميكيات القوة في منطقة الإندوباسيفيك.
ويتسق هذا الطرح مع بعض التقارير الأمريكية التي أشارت إلى أن تطوير الصين لمقاتلاتها الشبحية من الجيل السادس يشكل بداية تحول كبير في ديناميكيات القوة الجوية الإقليمية والعالمية، إذ أنها المرة الأولى التي تقوم فيها أي دولة بتطوير تكنولوجيا لمقاتلات جوية أكثر تقدماً من الولايات المتحدة، وذلك من نهاية الحرب العالمية الثانية. وربما تزداد اهمية هذا التطور بسبب محورية التفوق الجوية في ضمان الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن المدى القتالي للمقاتلات الصينية الجديدة من الجيل السادس يتجاوز 2500 كيلومتر (أكثر من 1500 ميل)، وهو ما سيجعلها قادرة على الوصول إلى القواعد العسكرية الأمريكية البعيد، في غوام ودييغو غارسيا، بل وفي ألاسكا.
واستناداً للوقت الذي استغرقته الصين لتطوير مقاتلاتها من الجيلين الرابع والخامس، بدايةً من النموذج الأولي إلى مرحلة الإنتاج، ترجح التقديرات أن تدخل المقاتلتان الصينيتان من الجيل السادس إلى الخدمة بحلول عام 2031. في المقابل، يتوقع أن تستغرق الولايات المتحدة حوالي 12 عاماً لإنتاج مقاتلها من الجيل السادس، وذلك وفقاً للجدول الزمني الذي استغرقته مقاتلتي F-35 وF-22.
ويبدو أن نماذج المقاتلتين الصينيتين (J-36) و(J-50) أكبر حجماً بكثير مقارنة بالمقاتلات الأمريكية الحالية (F-35) و(F-22). حيث ينتقد الصينيون فكرة الحجم الصغير للمقاتلات الأمريكية الأحدث، باعتبار أن الحجم الصغير يحد من كمية الوقود التي يمكن للمقاتلة حملها، فضلاً عن تأثيرها على توليد الطاقة، الذي يشكل أهمية حيوية لتشغيل الأنظمة الإلكترونية المتقدمة. وبالتالي، فالحجم الداخلي الهائل للمقاتلات الصينية من الجيل السادس تعكس قدرة هائلة على توليد الطاقة، حيث تركز بكين على تطوير منصة كهربائية قادرة على تشغيل رادارات عالية الطاقة، وأنظمة أسلحة الطاقة (EW).
وبالإضافة للولايات المتحدة والصين، تعمل بعض القوى الأوروبية أيضاً على تطوير مقاتلات الجيل السادس، فعلى سبيل المثال تشارك فرنسا وألمانيا وأسبانيا في تطوير برنامج نظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS)، بغية تطوير مقاتلة من الجيل السادس. وعلى المنوال ذاته تعمل المملكة المتحدة واليابان وإيطاليا على مشروع آخر لتطوير مقاتلة من الجيل السادس، وذلك ضمن برنامج القتال الجوي العالمي (GCAP). كما أعلنت روسيا، في يوليو 2024، أنها تعمل على تطوير مقاتلات من الجيل السادس، لكنها ألمحت بأن هذه المقاتلات من المتوقع أن تظهر ضمن القوات الروسية بحلول عام 2050.
مقاتلات الجيل السادس وتحقيق الهيمنة الجوية
سادت خلال السنوات الماضية جدلية تتعلق بانتهاء عصر التفوق الجوي، وهو ما انعكس في دراسة القوات الجوية الأمريكية لفكرة تحويل التركيز من السعي لضمان التفوق الجوي إلى الاهتمام بالقدرات الهجوية بعيدة المدى، على غرار تلك التي ستوفرها قاذفة (B-21 Raider) الشبحية. كما استكشفت الولايات المتحدة بدائل لمقاتلات الجيل السادس، من خلال تطوير طائرة مصغرة بتكلفة منخفضة، لتكون بمثابة وحدة تحكم جوي للطائرات المسيرة.
بيد أن التنافس الدولي الراهن يدعم استمرارية الدور المحوري للهيمنة الجوية في الصراعات الكبرى المستقبلية، حيث تعتمد القوة المشتركة على التفوق الجوي، وبدون هذا التفوق ستصبح كافة المهام والأهداف في ساحة المعركة أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة. وربما يدعم هذا الطرح التحركات الصينية المتسارعة لتطوير مقاتلات من الجيل السادس، مع استئناف الولايات المتحدة لبرنامجها الخاص بتطوير هذا الجيل من المقاتلات، ما يعني أن عصر التفوق الجوي لا يزال قائماً.
وفي هذا السياق، كشفت بعض التقارير الأمريكية أن تحقيق التفوق الجوي في المعارك المتقدمة المستقبلية يتطلب الحصول على مقاتلة شبحية مأهولة من الجيل السادس، وهو ما يتسق مع مناقشات لجنة كبار ضباط القوات الجوية الأمريكية، خلال الندوة التي نظمتها جمعية القوات الجوية والفضائية (AFA)، مطلع مارس 2025، بشأن «طائرات الجيل التالي والهيمنة الجوية» (NGAD)، والتي أكدت أن طائرات الجيل السادس تشكل الخيار الأفضل لتحقيق التفوق الجوي في ظل التنافس الحاد الذي يشهده النظام الدولي الراهن.
بالتالي، يتوقع أن تؤدي مقاتلات الجيل السادس، عند دخولها الخدمة، إلى إعادة هيكلة طبيعة القتال الجوي القائم حالياً، مع بلورة استراتيجيات جديدة لهذا القتال، في ظل القدرات المتقدمة التي ستميز هذا الجيل من المقاتلات، كما ستوفر هذه المقاتلات قدرة أكبر على التكيف مع التهديدات المستقبلية، ما يضمن هيمنة في المجالات الجوية والفضائية والسيبرانية.
مقاتلات الجيل السادس والحروب المستقبلية
كشف العديد من التقارير الغربية أن مقاتلة الجيل السادس سوف تحدث تغييراً جذرياً في الحروب المستقبلية. وفي إطار الحديث عن احتمالات اندلاع مواجهات مباشرة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة الإندوباسيفك، تعاظمت الأهمية الحاسمة لـ«المدى الطويل دون الحاجة للتزود بالوقود» Long Unrefuelled Range بالنسبة للقدرات المتقدمة الأمريكية والصينية. وفي هذا الإطار، عززت بكين قدراتها بترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز كي تجعل قواعد العمليات الأمامية للقوات الجوية الأمريكية، وكذا حلفاء واشنطن، غير قادرة على الاستمرار في أي صدام كبير. كذا، تمتلك الصين آلاف الصواريخ المتطورة المضادة للسفن، وبالتالي ستحتاج فرق العمل التابعة للبحرية الأمريكية البقاء على مسافات بعيدة كي تتمكن من إطلاق طلعات جوية باتجاه تايوان أو أي من نقاط التوتر المحتملة. من ناحية أخرى، تعتمد القوى الجوية التكتيكية الأمريكية حالياً على ناقلات وقود جوية كبيرة وغير مسلحة، وتحتاج للتحليق على بعد مئات الأميال البحرية من البر الصيني لتزويد المقاتلات الأمريكية بالوقود بالقرب من مناطق العمليات والأهداف المقصودة. وحتى في حال تجهيزها بخزانات وقود خارجية، فإن نصف قطر القتال للمقاتلات الحالية لا يتجاوز مئات الأميال البحرية. وقد أدركت الصين هذه النقطة الحرجة لدى الولايات المتحدة، وطورت مجموعة من الصواريخ بعيدة المدى لدعم الاشتباكات ضد ناقلات الوقود على مسافات بعيدة.
ومن هذا المنطلق، سيكون أحد أبرز المتطلبات الأساسية في المقاتلات الأمريكية من الجيل السادس هو أن يتجاوز نصف القطر القتالي لها، دون الحاجة للتزود بالوقود، 1000 ميل بحري، ما يجعلها قادرة على العمل انطلاقاً من قواعد أسهل دفاعاً، مع تقليل الاعتماد على ناقلات الوقود المعرضة للخطر، لكن هذه القدرات المحسنة ستحتاج مقاتلة أكبر حجماً، مع تكلفة اقتناء وتشغيل أعلى بكثير مقارنة بمقاتلات الجيل الخامس.
وعلى المنوال ذاته، تنطوي أي مواجهات محتملة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة (الإندوباسيفك) على تحديات بالنسبة للأخيرة، وذلك بسبب امتلاك القوات الأمريكية خيارات متقدمة لمطاردة أي طائرة ناقلة تابعة للجيش الصيني حال ابتعادها عن البر الرئيسي لبكين. وبالتالي، تحتاج القوات الصينية لاستخدام مقاتلات الجيل السادس لفترات طويلة في عمليات مسح جوية عبر مسافات واسعة.
ويعكس النهج الصيني الراهن تجاه تطوير مقاتلات الجيل السادس تحولاً شاملاً في التفكير العسكري التكتيكي، الأمر الي سيكون له انعكاسات واضحة على الحروب المستقبلية عالية المستوى، لا سيما في بؤرة الصراع الرئيسية بين الولايات المتحدة والصين بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومع استمرار بكين في تحديث شامل لقدراتها العسكرية، يتوقع أن يميل التوازن الاستراتيجي في هذه المنطقة لصالح الصين خلال العقد المقبل، مع عدم استبعاد تصدر بكين لقائمة الدول الرائدة في مجال المقاتلات الجوية.
لذا، يعكس التنافس الأمريكي – الصيني الراهن لتطوير مقاتلات الجيل السادس مدى التأثيرات المحتملة لهذه المقاتلات على الحروب المستقبلية، والتي يتوقع أن تدفع الدول المختلفة لإعادة هيكلة عقائدها العسكرية، نظراً لقدرتها على تنفيذ المهام بسرعة وحسم وبدرجة دقة أعلى وعبر مسافات واسعة للغاية، كما ستساعد الأنظمة المستقلة والذكاء الاصطناعي في تعزيز مستوى التكامل في العمليات العسكرية، وهو ما سيتمخض عنه تغييرات كبيرة متوقعة في البنية التحتية الدفاعية ومستقبل الحروب السيبرانية.
تحديات قائمة
على الرغم من الدور المحوري الذي يتوقع أن تحدثه مقاتلات الجيل السادس في الحروب المستقبلية وتحقيق الهيمنة الجوية، بيد أن تطوير هذه المقاتلات لا يزال يواجه بعض التحديات الرئيسة، يتعلق أبرزها بالارتفاع الكبير في تكلفة تطوير وإنتاج هذه المقاتلات، فضلاً عن تقنيات التجميع الرقمية التي لا تلبي التوقعات، ناهيك عن التأخيرات المتوقعة للوصول إلى مرحلة دخول هذه المقاتلات للخدمة.
لكن، ترتبط هذه التحديات بشكل أساسي بالبرنامج الأمريكي لتطوير مقاتلات الجيل السادس، وبدرجة أقل بالبرنامج الصيني، فبينما يواجه البرنامجان التحدي ذاته فيما يتعلق بارتفاع التكاليف، بيد أن البرنامج الصيني يواجه تحديات أقل فيما يتعلق بالتوقيت الزمني.
وفي الختام، على الرغم من استمرار الجدل بشأن مستقبل مقاتلات الجيل السادس، بيد أن ثمة قناعة باتت راسخة لدى القوى الدولية المتنافسة مفادها أن الخيار الأفضل لتحقيق التفوق الجوي الحاسم في الحروب المستقبلية يتضمن الحصول على أسطول من المقاتلات الشبحية من الجيل السادس، والتي تعمل على إنشاء منظومة قتالية شبكية، تشكل فيها المقاتلة المأهولة مركز القيادة الذي ينسق مع مجموعة من الأصول الداعمة، بما في ذلك الطائرات المسيرة ومنصات الصواريخ بعيدة المدى، وهو ما يؤدي إلى تلاشي الحدود بين الحرب الجوية والفضائية والسيبرانية.
عدنان موسى (مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة(