سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:
القائد الذي غيّر وجه الشام، وخلد اسمه في سجلات الفتوحات الإسلامية؟ إنه شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، أحد أعمدة الإسلام الذين حملوا رسالة التوحيد. شهدت حياته محطات بطولية جعلته رمزاً للقيادة، وبفضل حكمته وشجاعته تحولت مناطق إلى حواضر نابضة بالإيمان والحضارة.
حياته
أبو عبدالله شرحبيل بن حسنة، رضي الله عنه، من أبرز القادة المسلمين في عصر الفتوحات الأولى، وأحد الصحابة الذين حازوا شرف الصحبة. عاش شرحبيل حياة ملؤها الإنجاز، منذ كان كاتباً للوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن غدا قائداً لجيوش المسلمين في فتوح الشام.
البدايات
شرحبيل بن حسنة، هو شرحبيل بن عبدالله بن المطاع بن عمرو، من كندة، حليف لبني زهرة، يكنى أبا عبدالله. نسب إلى أمه حسنة، وغلب عليه اسم أمه، لأن والده مات وهو صغير.
أبصر شرحبيل النور في مكة المكرمة، فنشأ في بيت جمع أنساباً شريفة. فأبوه عبدالله بن المطاع بن عمرو بن كندة، وأمه حسنة التي نُسب إليها. قيل: إنه كندي، وقيل: تميمي، وقيل غير ذلك. حملته الأقدار بين بيوت قريش والأنصار، إذ تزوجت أمه بعد وفاة أبيه برجل من بني زريق.
قال ابن إسحاق: أمه حسنة؛ امرأة عدولية، ولاؤها لمعمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، تزوجها سفيان رجل من الأنصار، أحد بني زريق بن عامر، ويقال له: سفيان بن معمر، لأن معمر بن حبيب الجمحي حالفه وتبناه وزوجه من حسنة، وقد كان لها من غيره شرحبيل، فولدت له جابراً وجنادة ابني سفيان، فلما قدموا من الحبشة نزلوا على قومهم من بني زريق في ربعهم، ونزل شرحبيل مع أخويه لأمه، ثم توفي سفيان وابناه في خلافة عمر بن الخطاب، ولم يتركوا عقباً، فتحول شرحبيل بن حسنة إلى بني زهرة.
صحبة شرحبيل بن حسنة للنبي صلى الله عليه وسلم
كان شرحبيل من المائة السابقين إلى الإسلام، ومن المهاجرين، ممن شدّوا الرحال إلى الحبشة في الهجرة الثانية. كان كاتباً للوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم، وغزا معه عليه الصلاة السلام غزوات عديدة.
دوره في الفتوحات
جاءت الفتوحات فكشفت عن قائدٍ فذ نبيه. كان شرحبيل أحد الأمراء الذين عقد لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الشام. لمّا ولّاه أبو بكر وعمر على جيوش الشام، كان دوره محورياً في عدة معارك فاصلة. فساهم في اندحار الروم ونشر الإسلام في الربوع المباركة.
شهد شرحبيل اليرموك، وفتح بيت المقدس، وقاتل في اليمامة. فتح الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية التي صالح أهلها، وذلك بأمر أبي عبيدة بن الجراح.
تحولت الأردن على يدي شرحبيل من معقل روماني إلى حاضرة إسلامية. ومهّد فتحه لها طريق تحرير فلسطين، وأرسى من خلالها قواعد حكم إسلامي امتد أثره عبر القرون.
وفاته
عندما نزل بالشام طاعون عمواس، خطب عمرو بن العاص رضي الله عنه بالناس فقال: إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية. فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة، فغضب فجاء وهو يجر ثوبه معلق نعله بيده وقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو أضل من حمار أهله. ولكنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم ووفاة الصالحين قبلكم. ثم قضى نحبه بالطاعون في غور الأردن، في ذات اليوم الذي استشهد فيه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، سنة ثماني عشرة للهجرة، وكان عمره سبعاً وستين سنة.
خاتمة
بقيت سيرته درساً في التضحية والإخلاص، ونموذجاً للجيل الفريد الذي صنع التحول الكبير في تاريخ المنطقة. عاش للإسلام، وجاهد في سبيله، وختم حياته شهيداً في أرض حررها بسيفه وحكمته.
فعَمّان، عاصمة الأردن الحديث. هذه المدينة تَدِينُ بالفضل في عروبتها وهويتها الإسلامية، لواحد من كبار الصحابة، قاد في بداية الفتوحات جيش المسلمين الذي حرَّر هذه البلاد من الاحتلال الروماني، بعدما جثم عليها نحو سبعة قرون، وخاض في سبيل ذلك معارك عنيفة خلال الفترة الممتدة بين عامي ثلاثة عشر وستة عشر للهجرة. إنه الصحابي القائد شُرَحْبِيلُ بنُ حِسْنَة.
لكنَّ حَسْمَ مصير الوجود الروماني، لم يكن في عَمَّان، بل كان في غور الأردن، وبالتحديد في مدينة تاريخية عرفت باسم فِحل، أو بِيلاّ، كما سمَّاها اليونان، ومِنْ بَعدِهم الروم، وقد جرت المواجهة فيها في السنة الرابعة عشرة للهجرة، بعد معارك اليرموك، وفتح دمشق.
وكانت معركة فِحْل بقيادة شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة من أهم معارك الفتح التي وقعت على أرض الأردن، كانت فِحْل أهم مدينة على مفترق طرق في بلاد الشام بين مجموعة من المدن التاريخية التي سيطر عليها اليونان ثم الروم، عُرفت باسم الديكابولِس، ومنها بيسان ودمشق وبصرى ودرعا وأم قَيْس وجرش وفيلادلفيا (أو عمّان)، وأرَبيلاّ (أو إربد) وأم الجمال.
وفي بداية العهد النبوي هاجم الفرس مدينة فِحل، وجرت معركة أشار إليها القرآن الكريم وهُزم فيها الروم، لكنهم تمكنوا خلال بضع سنوات من استعادة السيطرة عليها بقيادة ملكهم هِرَقْل.
أقام الروم حول فِحل خطاً دفاعياً مائياً، بشقِّ قنوات من بحيرة طبرية، سلَّطوا مياهها على الأراضي المحيطة بالمدينة، لمنع تقدم جيشِ المسلمين، وحشدوا في المنطقة عشرات الآلاف من مقاتليهم.
فرض جيش شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة حصاراً شديداً على فِحل، استهدف حرمان الروم من استغلال التحصينات المائية التي أقاموها.
بعد الحصار، شنَّ جيش شُرَحْبِيل هجوماً كاسحاً على فِحل، تمكَّن من دفع قوات الروم نحو الغرب باتجاه المستنقعات الدفاعية التي أقاموها. وانتهت المعركة بهزيمة الروم.
سيطر المسلمون بعد معركة فِحْل على بيسان، وتَلَتْها طبرية. ثم واصلت قوات شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة تقدمها باتجاه بقية مدن الأردن، لتحريرها من الروم. وبذلك سقطت ما سُمِّيت بمدن الديكابولِس، وأصبحت مدناً إسلامية.
حروب الردة
شارك شُرَحْبِيلُ بنُ حِسْنَة في حروب الردة، مع قوات خالد بن الوليد التي اصطدمت بقوات مُسَيْلَمةَ من بني حنيفة، وبقي مع خالد في فتح العراق، في السنة الثانية عشرة للهجرة.
جعله أبو بكر الصديق على رأس واحد من الجيوش التي وجَّهها إلى بلاد الشام، وكانت منطقة عملياته الأساسية في الأردن.
في معركة اليرموك، كان شُرَحْبِيلُ بن حِسْنَة واحداً من القادة إلى جانب خالد بن الوليد وأبي عبيدة، وغيرهما، ثم انتقل معهما لفتح دمشق، وشارك في حصارها في منطقة باب توما، ودخلت قواته مع الجيوش التي تقدمت داخل مدينة دمشق.
ويرمز مقام شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة في دمشق إلى دوره ومشاركته في فتح المدينة.
شارك شُرَحْبِيلُ بن حِسْنَة أيضاً مع يزيد بن أبي سفيان في فتح الساحل اللبناني في العام الخامس عشر للهجرة، ومقام شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة في صيدا يرمز إلى مشاركته في فتح هذه المدينة.
وتشير أرجح الروايات إلى أن شُرَحْبِيلَ بنَ حِسْنَة توفي في الطاعون الذي اجتاح المنطقة في السنة الثامنة عشرة للهجرة، وعرف باسم طاعون عِمواس، وكان عمره سبعاً وستين سنة.
دفن شُرَحْبِيلُ بنُ حِسْنَة في منطقة إلى الجنوب من فِحْل بنحو خمسة كيلومترات، كانت تسمى وادي اليابس، وهي تُعرف الآن بوادي الرَّيّان.
ويبدو واضحاً من وفاة شُرَحْبِيلِ بن حِسْنَة في غور الأردن ودفنه هناك، أن قيادة عملياته كانت في هذه المنطقة، التي كان يعود إليها بعد انتهاء أي مهمة خارجها.
شُرَحْبِيلُ بنُ حِسْنَة رضي الله عنه، صحابي من القادة الكبار في تاريخ الإسلام. اتسمت شخصيته بالتواضع والشجاعة والفروسية. وسيظل التاريخ يذكره لدوره العظيم في إنهاء وجود الروم واحتلالهم لبلاد الشام.
إعداد: نادر نايف محمد