أعلنت وكالة “مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة” (DARPA)، التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، في فبراير 2025، دخول أول سفينة ذاتية القيادة بالكامل مرحلة الاختبار، وهي السفينة السطحية متوسطة الحجم غير المأهولة (USX-1 Defiant)، والتي يطلق عليها أيضاً اسم سفينة الشبح، لتشكل بذلك تطوراً نوعياً لبرنامج (NOMARS)، الخاص بتطوير قدرات بحرية غير مأهولة متطورة. ويعكس تطوير هذه السفينة محاولةً لإعادة النظر في الهندسة البحرية التقليدية، من خلال الدفع نحو تقليل الاعتماد على البشر فيما يتعلق بالسفن الحربية، وهو النهج الذي يمكن أن يؤثر على العمليات البحرية المستقبلية.
في هذا السياق، طرحت العديد من التقارير تساؤلات تتعلق بدوافع الاهتمام الأمريكي المتزايد بتطوير قدراتها من السفن الحربية غير المأهولة، وما إذا كانت هذه القدرات بإمكانها سد الفجوة العددية مع القدرات البحرية الصينية.
ماهية وحدود قدرات سفينة الشبح (USX-1 Defiant) الأمريكية الجديدة؟
أعلنت وكالة «مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة» (DARPA)، في فبراير 2025، عن إطلاق نموذج أولي لسفينة حربية جديدة للبحرية الأمريكية، والمعروفة باسم «سفينة الشبح» أو (USX-1 Defiant)، وتندرج هذه السفينة ضمن برنامج «نومارس» No Manning Required Ship – NOMARS، والذي طورته وكالة (DARPA)، بهدف تحدي نموذج الهندسة المعمارية البحرية التقليدية، ومن ثم التركيز على تطوير قدرات بحرية غير مأهولة متطورة، وذات قدرة تحمل طويلة، قادرة على الانتشار بشكل مستقل، ولعل هذا ما انعكس في الاختبارات الناجحة التي أجرتها الوكالة في يناير الماضي للتزود بالوقود في البحر، من خلال برنامج «نومارس»، وقد شملت هذه الاختبارات مركبتين بحريتين غير مأهولتين، هما (Ranger) و(Mariner)، حيث حملت الأولى محطة استقبال مصممة لمحاكاة نظام التزود بالوقود المستقبلي لسفينة الشبح، بينما تم تزويد الثانية بمحطة صغيرة للتزود بالوقود.
وقد تم تطوير سفينة الشبح من خلال شركة «سيركو» Serco، المقاول الرئيسي لبرنامج «نومارس»، وهي الآن في طور التجارب البحرية، وقد بدأت «سيركو» في تطوير هذه السفينة منذ عام 2020، واكتمل بناؤها في فبراير 2025، وكشفت الشركة أن سعر السفينة سيبلغ حوالي 25 مليون دولار. وقد بنيت هذه السفينة السطحية غير المأهولة (USV) بحيث لا تحتاج لطاقم بشري، بل إنها لا تتسع لأماكن يمكن أن تحويهم، حيث يبلغ طولها حوالي 55 متراً (180 قدماً)، بوزن يقدر بنحو 240 طناً. فهي تبدو أصغر مقارنةً بالسفن الحربية السطحية التقليدية، كما يمكنها العمل في البحر لعدة أشهر دون الحاجة لإشراف بشري، ومن ثم قدرة كبيرة على الملاحة بشكل مستقل.
وقد صممت سفينة الشبح الأمريكية بالأساس للعمليات ذاتية القيادة، فعلى عكس السفن السطحية غير المأهولة السابقة، والتي كانت في أغلبها نسخاً معدلة من السفن المأهولة القائمة بالفعل، فإن سفينة (USX-1 Defiant) تم تصميمها منذ البداية لتكون غير قابلة لأي تواجد بشري، وهو ما يوفر مساحة كبيرة للحمولات مع خفض تكاليف البناء والتشغيل، مع التركيز على الكفاءة الهيدروديناميكية ودعم قدرات التخفي التشغيلي، والمرونة في مواجهة مختلف التهديدات والظروف البيئية المتنوعة.
وقد تم تصميم سفينة الشبح بمساحات مفتوحة واسعة أعلى سطحها، وذلك أمام وخلف الصاري الرئيسي، وهي مصممة لدعم الحمولات المعيارية، كما أنها قادرة على استيعاب مجموعة متنوعة من أنظمة المهام المختلفة، فضلاً عن إمكانية تجهيزها بمنصة إطلاق قابلة للتكيف (ADL)، من إنتاج شركة «بي إيه إي سيستمز» BAE Systems، ويعد «نظام الإطلاق القابل للتكيف»، على سطح السفينة، قاذفاً معيارياً مصمماً لإطلاق الصواريخ من نفس الحاويات المستخدمة في نظام الإطلاق العمودي (VLS)، من طراز MK-41، والذي تستخدمه العديد من السفن الحربية الأمريكية. وبالتالي، يمكن لهذا النظام إطلاق مجموعة متنوعة من الصواريخ أرض – جو، والصواريخ المضادة للسفن، وتلك المضادة للغواصات. ووفقاً للتصميم الأولي الذي كشفت عنه وكالة (DARPA)، فيمكن أن تكون سفينة (USX-1 Defiant) قادرة على استيعاب 16 خلية نظام إطلاق عمودي (VLS)، من طراز (MK-41).
وكشفت بعض التقارير الأمريكية أنه من المقرر أن تجري اختبارات مكثفة لسفينة الشبح في المياه، ستبدأ على رصيف الميناء، لتبدأ بعدها في عرض بحري يستمر لعدة أشهر، حيث يفترض أن تُقَيِّم هذه التجارب قدرة السفينة على التحمل، واستقلاليتها الملاحية، فضلاً عن قدرتها على التزود بالوقود في البحر، وهو ما يشكل عاملاً حاسماً للمهام طويلة الأمد. وقد تم رصد السفينة في مارس الماضي، وهي تدفع بواسطة قاطرة عبر ممر «ساراتوجا» في مضيق بوغيت، بالقرب من قاعدة «ويدبي» الجوية التابعة للبحرية الأمريكية.
تزايد الاهتمام الأمريكي بتطوير السفن الحربية غير المأهولة
ثمة اهتمام أمريكي متزايد بتطوير السفن البحرية غير المأهولة، لا سيما لنشرها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فقد طرح قائد القوات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال صامويل بابارو، مفهوماً استراتيجياً، يسمى «المناورات الجهنمية» «Hellscape»، والتي تشير إلى استخدام أسراب من السفن غير المأهولة لتعطيل أي عمليات عسكرية من الخصوم، لا سيما في مضيق تايوان.
وبالتالي، جاء تطوير سفينة الشبح الأمريكية غير المأهولة لتتسق مع الدعوات المتزايدة من قبل صناع القرار الأمريكيين لتطوير سفن حربية غير مأهولة، تكون أكثر فاعلية من حيث الكلفة، يمكنها تنفيذ مهام أكثر دقة مرتبطة بالأهداف الاستراتيجية الأمريكية. وفي هذا السياق، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن سفينة الشبح الأمريكية الجديدة يمكن أن يكون لها دور محوري في أي مواجهات مستقبلية بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لا سيما فيما يتعلق بالدفاع عن تايوان.
من ناحية أخرى، يثير غياب الطاقم البشري من سفينة (USX-1 Defiant) اعتبارات جديدة تتعلق بالصيانة والسلامة، فحال نشوب حريق، على سبيل المثال، يمكن تجهيز السفينة بنظام إخماد حرائق آلي يعمل بالغاز، وهي الطريقة التي لا تلائم السفن المأهولة، لكنها تظهر درجة عالية من الفاعلية بالنسبة للمنصات غير المأهولة، ويتسق هذا النهج الجديد مع مساعي برنامج (NOMARS) لإعادة تعريف الهندسة البحرية، من خلال حلول محسنة للعمليات ذاتية التشغيلي.
بالتالي، تشكل سفينة الشبح نقطة حاسمة لاختبار مدى الجدوى التشغيلية لبرنامج (NOMARS) الأمريكي، إذ يتوقع أن يؤدي نجاح تجارب هذه السفينة إلى تأطير الأساس لفئة جديدة من السفن غير المأهولة، بتكلفة معقولة ودرجة عالية من الاستدامة، وهو ما قد يعيد تشكيل الاستراتيجية الأمريكية إزاء التحديات البحرية المستقبلية، مع دفع الولايات المتحدة لتطوير منصات غير مأهولة أكبر حجماً.
لكن، لا تزال عملية التزود الذاتي بالوقود تشكل تحدياً رئيسياً بالنسبة لوكالة (DARPA) لتطوير أنظمة غير مأهولة بالكامل، فعلى الرغم من إجراء البحرية الأمريكية وشركة سيركو لاختبارات ناجحة لأنظمة جديدة للتزود بالوقود ذاتياً، حيث استخدمت البحرية الأمريكية سفن الدعم البحري «رينجز» و«مارينر»، لكن رغم تصنيفها كأنظمة غير مأهولة، فإنها لا تزال قادرة على حمل الأفراد، ولعل هذا ما يفسر البيان الرسمي الصادر، في ديسمبر 2024، عن وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، والذي أشار إلى أن تزويد السفن السطحية غير المأهولة بالوقود في البحر (FAS) لا يزال يمثل إشكالية تحتاج إلى حلول جذرية سريعة، فهذه العملية لا تزال تعتمد حالياً على الأفراد للتعامل مع الأنابيب والخراطيم على منصة الاستقبال، هو ما يفرض قيوداً تصميمية وتشغيلية كبيرة، لا سيما ما يتعلق بمراعاة سلامة الأفراد.
وترى الولايات المتحدة أن أهمية المنصات غير المأهولة لا تقتصر فقط على حماية طاقم السفينة من المخاطر، لكنها تتيح أيضاً فرصة لتوسع القدرات القتالية البحرية بشكل أسرع، وبتكلفة أقل، مقارنة ببناء السفن التقليدية، ويتماشى ذلك مع تصريحات وزير البحرية الأمريكية، جون فيلان، والذي أكد حرصه على إضافة منصات غير مأهولة للأسطول الأمريكي، لافتاً إلى أن القدرات الفريدة التي توفرها هذه الأنظمة غير المأهولة للقوات البحرية الأمريكية، خاصةً ما يتعلق بتوفير المراقبة المناسبة وجمع المعلومات الاستخباراتية والقدرات الدفاعية والهجومية، الأمر الذي سيعزز القدرة القتالية، ومن ثم العمل كرادع قوي وفعال ضد أي أعمال عدائية، مع تقليل المخاطر والحفاظ على المرونة، وهو ما يدعم مساعي الولايات المتحدة لتحقيق الهيمنة البحرية.
مساعي البحرية الأمريكية لسد الفجوة العددية مع الصين
كشف تقرير «القوة العسكرية الصينية» الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية عام 2024 أن الصين باتت تشكل أكبر قوة بحرية في العالم، بامتلاكها 370 سفينة، منها 140 مقاتلة بحرية رئيسية، (مقابل 296 سفينة قتالية للولايات المتحدة وهو ما يعزز الميزة العددية للقدرات البحرية الصينية في مقابل نظيرتها الأمريكية، خاصةً في ظل امتلاك بكين قدرة على بناء السفن تصل إلى 230 مرةً أكثر من واشنطن، لذا باتت هذه الفجوة تشكل عبئاً كبيراً على الولايات المتحدة في إطار منافستها الاستراتيجية الراهنة مع الصين.
ومن هذا المنطلق، تواجه البحرية الأمريكية العديد من التحديات، في إطار مساعيها لتطوير أسطولها البحري وتعزيز هيمنتها البحرية، فقدرة البحرية الأمريكية على الحصول على سفن جديدة تعوقها تكلفتها الباهظة، ناهيك عن النطاق المحدود للقاعدة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة، ويمنع الكونغرس الأمريكي من شراء البحرية للسفن الحربية من الدول الحليفة. لكن، حتى لو تم التجاوز عن هذا الأمر، فإن قدرة البحرية الأمريكية، على المدى الطويل، على توفير طاقم السفن الحربية بشكل كافٍ، سوف تتضاءل تدريجياً، وهو ما يعزى إلى الانخفاض التدريجي في أعداد الشباب، بالإضافة لعدم رغبة، أو عدم قدرة، الكثير منهم على الخدمة. وبالتالي، باتت السفن الحربية الأمريكية تشكل أصولاً عالية القيمة، تكاد تكون غير قابلة للتعويض، يضاف لذلك إشكالية أخرى تتعلق باحتواء سفنها الكبيرة على آلاف الأفراد، ما يجعل قادتها البحريين مضطرين لمحاولة تجنب المخاطرة. وفي هذا السياق، ربما تعمد الصين إلى محاولة إبعاد البحرية الأمريكية عن أي صراع مستقبلي في منطقة شرق آسيا، وذلك من خلال إظهار قدرتها على فرض مخاطر لا يمكن للبحرية الأمريكية تحملها.
وفي هذا الإطار، يمكن أن تساعد تقنيات المنصات غير المأهولة في دعم البحرية الأمريكية على التغلب على بعض هذه التحديات، وهو ما يتسق مع خطة الملاحة البحرية الأمريكية لعام 2024، والتي دعت خلالها رئيسة العمليات البحرية آنذاك، الأدميرال ليزا فرانشيتي، إلى ضرورة زيادة التكامل التشغيلي للأنظمة الروبوتية والأنظمة ذاتية التشغيل.
وعلى المنوال ذاته، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أنه تم تصميم سفينة (USX-1 Defiant) لمواجهة ميزة التفوق العددي في الأسطول الصيني، لا سيما بعدما تفوقت القدرات البحرية الصينية على نظيرتها الأمريكية من حيث العدد، هو ما يفسر الاهتمام الأمريكية المتنامي للتوسع في المركبات البحرية غير المأهولة، في محاولة لسد الفجوة العددية مع الصين.
ويتسق ذلك مع بعض الأدبيات التي اعتبرت أن السفن السطحية غير المأهولة تجسد نموذج «كل سفينة هي مجموعة عمل سطحية» (SAG)، وهو ما يعزز المقاتلات المأهولة بقوة نيرانية صاروخية قابلة للتطوير، بالإضافة لقوة قتالية موزعة ومنتشرة. بالتالي، فالسفن الحربية السطحية غير المأهولة، المستخدمة كمضاعفات للقوة، تعزز قدرة الأسطول البحري على البقاء، وذلك من خلال تعقيد استهداف الخصوم، فضلاً عن توفير توسيع اقتصادي لنظام الإطلاق العمودي، لا سيما عند مواجهة فجوة في القوة النارية.
وبينما تشكل التكلفة العالية أحد أبرز التحديات الرئيسية للأنظمة المستقلة، بيد أن برنامج (NOMARS) يستهدف معالجة هذه الإشكالية، من خلال تطوير سفن، على غرار سفينة الشبح، ليست مستقلة فحسب، لكنها أكثر فاعلية من حيث تكلفة الإنتاج والنشر. وهو ما يتسق مع تصريحات كبير مهندسي البحرية بشركة «سيركو»، ونائب مدير برنامج (NOMARS) بوكالة (DARPA)، ريان ماتا، والذي أشار إلى أن سفينة الشبح (USX-1 Defiant) مصممة بالأساس لخفض تكلفة المهام مع زيادة سعة الحمولة. بالتالي، يمكن للسفينة الأمريكية الجديدة أن تحقق العديد من المزايا، من حيث الحجم وخفض التكلفة والكفاءة الهيدروديناميكية، ناهيك عن قدراتها العالية على التخفي، الأمر الذي سيعزز قدرتها على البقاء وزيادة فاعليتها التشغيلية. ومع التركيز المتزايد حالياً على الحروب البحرية المستقلة، يتوقع أن تشكل سفينة الشبح الأمريكية حقبة جديدة في الابتكار العسكري، ومحدداً رئيسيًا في سباق التنافس الراهن على الهيمنة البحرية غير المأهولة.
من جانب آخر، كشفت بعض التقارير أن خصائص وتصميم سفينة (USX-1 Defiant) تتيح لكثير من الشركات الأمريكية المشاركة في إنتاجها، حتى بالنسبة للشركات التي لا تشارك عادةً في برامج البحري الأمريكية، ومن شأن ذلك أن يساهم في تخفيف العبء على شبكة بناء السفن الأمريكية، المرهقة بالفعل.
هل تتفوق التكنولوجيا على حجم الأسطول في الحروب البحرية؟
كشفت بعض الدراسات الغربية عن كثير من المزايا المرتبطة بالاستخدام المتزايد للمركبات غير المأهولة، وذلك في مجالات عدة تتعلق بالعمليات البحرية، حيث يمكن أن يؤدي التخلص من طاقم السفينة إلى توفير مساحات وموارد واسعة للحمولات أو تخزين الوقود، بل يمكن أن يساعد ذلك في تقليص حجم المركبة ذاتها وتكلفتها، يضاف لذلك تأثير غياب الأفراد على تقليل قيود التصميم، وذلك من خلال دمج وظائف التحكم بعمق داخل السفينة، بحيث تكون أقل عرضة للتلف السطحي، كما يمكن إعادة تصميم السفن غير المأهولة، بحيث تكون قادرة على المناورات الصعبة، والتي يمكن أن تهدد سلامة الطاقم في حالة نظيرتها المأهولة.
من ناحية أخرى، يشكل معيار التكلفة محدداً رئيسياً في تعزيز كفاءة وفاعلية القدرات البحرية للدول، وبقدر ما يمكن خفض التكاليف، يساعد ذلك على توزيع القوة القتالية على منصات أكثر، وهو ما يؤدي إلى تقليل المخاطر المرتبطة بخسارة أي منها. ورغم أنه لا يزال هناك اهتمام كبير بمنع فقدان الأصول الرئيسية، بيد أن تزايد أعدادها، فضلاً عن غياب الأفراد على متنها، يعني أن المركبة قادرة على مواجهة مخاطر أكبر، مقارنة بالأصول ذات الطبقات المتعددة من الحماية والمرونة.
أيضاً، يساعد انتشار المنصات غير المأهولة على تواجد القدرات البحرية في أماكن عديدة في نفس الوقت، الأمر الذي يعزز القدرة على الانتشار حال وقوع أزمات متزامنة في مناطق مختلفة من العالم، أو للحافظ على الوجود في هذه المناطق كرادع للخصوم، من خلال احباط أي محاولة من هؤلاء الخصوم لتدمير هذه القوة البحرية بضربة سريعة وحاسمة، على غرار مساعي اليابان في الحرب العالمية الثانية، عندما استهدفت ميناء «بيرل هاربور» عام 1941.
لكن، تشير بعض التقديرات الغربية إلى أن المركبات السطحية غير المأهولة لا تعد حلاً سحرياً للحروب البحرية، وذلك في ظل البيئة البحرية التي تسرع من وتيرة التدهور الميكانيكي مع زيادة استقلاليتها، وهو ما يعني تحولها لأهداف سيبرانية رئيسية، فاعتماد هذه المركبات على روابط الاتصالات الخارجية يعرضها للتشويش والاختراق. يضاف لذلك أن المركبات السطحية غير المأهولة لا تزال تفتقر للقدرة على التحمل المستدام والقوة النارية الكافية والقدرة على التكيف التي تتمتع بها السفن الحربية المأهولة، وهو ما يدعم استمرار الأهمية الحاسمة للأخيرة في المواجهات البحرية المطولة، على الأقل في المستقبل المنظور.
ويتماشى هذا الطرح مع بعض الدراسات، التي عمدت إلى تحليل 28 مواجهة وصراعاً بحرياً من العصور القديمة وحتى الحرب الباردة، والتي توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأدلة التاريخية تظهر أن حجم الأسطول غالباً ما يتفوق على التطور التكنولوجي، فيما يتعلق بالحروب البحرية، حيث كشفت الدراسة أن 25 صراعاً، من التي شملتها الدراسة، كانت الغلبة فيها للجانب الذي يمتلك تفوقاً عددياً في حجم الأسطول البحري، حيث يسهل العدد الأكبر من عمليات استطلاع أفضل، مع توفير قدرة أكبر على القصف ودعم المرونة العملياتية، وهو ما يتضح بشكل جلي في المواجهات البحرية خلال حقبة نابليون والحرب العالمية الثانية، كما يفسر هذا الأمر توسعات البحرية الأمريكية، على غرار استراتيجية الـ 600 سفينة، خلال فترة الحرب الباردة. في المقابل، نادراً ما تغلبت القوة البحرية الأصغر حجماً، مع تقدم تكنولوجي أكبر، على نظيرتها الأكبر حجماً.
خطة أمريكية جديدة لإصلاح صناعة بناء السفن
بالإضافة للتحديات المرتبطة بالفجوة العددية، التي تعانيها البحرية الأمريكية في مواجهة نظيرتها الصينية، فإن الأولى تواجه أيضاً شبكة معقدة من التحديات، والتي تتراوح بين تصميم القوة والتأخيرات المستمرة في الإنتاج، وصولاً لتجاوز التكاليف وتناقص القدرة على بناء السفن. وعلى الرغم من الأهداف الطموحة التي حددتها البحرية الأمريكية، والتي تنطوي على بناء أسطول حديث مكون من 373 سفينة، مدعومة بـ150 سفينة حربية غير مأهولة، بيد أن التنفيذ يتعثر في كثير من الأحيان، وذلك لأسباب تتعلق بالأولويات غير المتوافقة والبنية الأساسية المتقادمة، ناهيك عن نقص القوى العاملة والاعتماد على تكنولوجيا أقدم نسبياً، كما أن استجابات البحرية الأمريكية للأزمات قصيرة المدى تؤدي غالباً إلى تفاقم فجوات الجاهزية على المدي الطويل، الأمر الذي يؤدي إلى حلقة مفرغة من الصيانة المؤجلة والموارد المجهدة.
كذا، لاتزال عملية تطوير الأساطيل البحرية تحتاج لفترة زمنية طويلة، فعلى سبيل المثال، يتوقع أن تبدأ السفن الحربية التي تصممها البحرية الأمريكية حالياً في الدخول للخدمة في ثلاثينات القرن الحالي، وسيظل أغلبها في الأسطول حتى سبعينات أو ثمانينات القرن ذاته، وهو ما يطرح تحديات أخرى تتعلق بصعوبة التنبؤ بالظروف الجيوسياسية المستقبلية، ناهيك عن ترجمتها في احتياجات تشغيلية.
وفي هذا الإطار، طرحت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خطة جديدة طموحة لإصلاح صناعة السفن في الولايات المتحدة، وذلك في إطار مساعيها لمواجهة الهيمنة الصينية على هذه الصناعة، بيد أن هذه الخطة لا تزال في مراحلها الأولى، إذ سيتم إنشاء مكتب جديدة للصناعة البحرية، وذلك ضمن مجلس الأمن القومي، سيتولى هذا المكتب إعداد خطة عمل بحرية شاملة خلال ستة أشهر. وتنطوي خطة ترامب الجديد على عدد من المحاور الرئيسية، لعل أبرزها إنشاء صندوق ائتماني للأمن البحري، وتقديم حوافز ضريبية كبيرة لدعم وتنشيط بناء سفن محلية، في محاولة من قبل الإدارة الأمريكية لمعالجة عدم كفاءة المشتريات، والعمل على زيادة أجور العاملين في أحواض بناء السفن. كما ألمح ترامب إلى أنه قد يلجأ إلى شركات أجنبية لبناء السفن الأمريكية، لا سيما في اليابان وكوريا الجنوبية، رغم أن الكونغرس الأمريكي يمنع شراء البحرية للسفن الحربية من الدول الحليفة.
لكن، تشير بعض التقارير الأمريكية إلى صعوبة أن تفضي هذه الخطة الجديدة إلى دعم قدرات الولايات المتحدة البحرية بحيث تجعلها قادرة على منافسة الصين في مجال بناء السفن، لا سيما في ظل مزايا التكلفة الضخمة التي تتمتع بها الصين، كما أن الدفع نحو محاولة سد الفجوة مع الصين عبر استثمار ضخم في مجموعة معينة من التكنولوجيا المتطورة يعكس درجة من السطحية في تقدير قدرة الصين على الابتكار التكنولوجي وخفض التكاليف. وبالتالي، رغم المساعي الأمريكية الراهنة للتركيز على تعزيز قدراتها من السفن السطحية غير المأهولة، محاولةً في ذلك سد الفجوة العددية مع الصين، بيد أن المعركة الحقيقية ربما لن تكون في البحر، لكن سترتكز في أحواض بناء السفن وسلاسل التوريد والهيمنة التكنولوجية البحرية، وهي مجالات تظهر فيها الصين تفوقاً ملحوظاً حتى الآن.
من ناحية أخرى، هناك إشكالية أخرى تواجه الخطة الأمريكية الطموحة تتعلق بمدى توافر المخصصات المادية لدعم صناعة السفن الأمريكية، لا سيما في ظل التفاوت الواضح بين تقديرات البحرية الأمريكية وتقديرات مكتب الميزانية بالكونجرس بشأن التكلفة التقديرية لخطة البحرية لبناء السفن (2025 – 2054)، حيث تميل تقديرات مكتب الميزانية بالكونجرس إلى أن تكون أعلى من تقديرات تكاليف البحرية، وهو ما يعزى إلى الاختلاف بين الجانبين في معالجة التضخم، وكذا بشأن التباين بينهما حول الأحجام والميزات المحتملة لبعض فئات السفن المستقبلية المتوقعة. وفي هذا السياق، يتوقع تقرير مكتب الميزانية بالكونجرس الأمريكي أن تبلغ تكاليف بناء السفن بموجب الخطة الجديدة نحو 35.8 مليار سنوياً (بإجمالي 1.075 تريليون دولار خلال السنوات الـ 30 المقبلة)، في المقابل تقدر البحرية الأمريكية أن تبلغ تكلفة خطة بناء السفن حوالي 30.1 مليار دولار سنوياً. وبالتالي، ثمة تحديات كبيرة ربما تواجه الخطة الأمريكية الطموحة لدعم صناعة بناء السفن، يبقى أبرزها الافتقار للتمويل الكافي، رغم مساعي الإدارة الأمريكية الحالية حلحلة هذا الأمر، فضلاً عن عدم كفاية البنية الأساسية في الولايات المتحدة لزيادة حجم الإنتاج، وهو ما يفسر زيادة التعاون مع حلفاء واشنطن لدعم القدرة الإنتاجية للسفن الحربية.
وفي الختام، يتوقع أن يشكل برنامج (NOMARS)، لا سيما مع استعداد سفينة الشبح للانطلاق في أول عروضها البحرية، محدداً رئيسياً في مستقبل البحرية غير المأهولة للجيش الأمريكي، وتجسيد هندسة بحرية ثورية، تركز على كفاءة التكلفة والموثوقية، وقدرات الحمولة الموسعة للمهام طويلة المدى، وهو ما قد يشكل ابتكاراً بالغ الأهمية، وذلك في ظل التزايد المطرد في الطلب على المركبات السطحية غير المأهولة، منخفضة التكلفة والقادرة على مواجهة التهديدات الاستراتيجية. غير أنه لا يزال، حتى الآن، هناك الكثير من الشكوك تتعلق بمدى قدرة هذه السفن غير المأهولة على سد الفجوة العددية للبحرية الأمريكية مع نظيرتها الصينية.
عدنان موسى مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة