تُعير القوات العسكرية للقوى العالمية اهتماماً متزايداً للحاجة إلى الهيمنة على الطيف الكهرومغناطيسي، وينبغي أن لا يكون هذا مفاجئاً، لأن الطيف الكهرومغناطيسي مهم لكل جزء من الحياة اليومية الحديثة: فهو لا يُمَكِّن أنظمة الملاحة والإنترنت اللاسلكي والبلوتوث وحسب، ولكن العمليات العسكرية أيضاً. يلعب نظام الطيف الكهرومغناطيسي، المكون من مجموعة كاملة من الترددات التي تتراوح مابين موجات الراديو وأشعة جاما، دوراً كبيراً في التحديث العسكري الحالي الذي يتشكل في جميع أنحاء العالم. تعد حرية العمل في الطيف الكهرومغناطيسي شرطاً أساسياً للعمليات القائمة على المعلومات ومتعددة المجالات، وزيادة السرعة وزيادة الدقة.
إن اعتماد الجيوش الأكثر تقدماً على الطيف الكهرومغناطيسي كبير بالفعل، الأمر الذي أدى أيضاً إلى الديناميكية القائلة إن القوى التي تمتلك مستوى أقل من القوة التقليدية، جعلت نظام الطيف الكهرومغناطيسي المنطقة المفضلة لشن حروب غير المتكافئة. بالرغم من كل هذا النشاط، فإن الطيف الكهرومغناطيسي، على حد تعبير القوات المسلحة الأمريكية، يزداد “ازدحاماً وتنازعاً وقيوداً”. ولا تزال الأمثلة الملموسة على “الحرب الكهرومغناطيسية” نادرة نسبياً. لكن التطور التكنولوجي المتزايد في هذا المجال، جنباً إلى جنب مع المنافسة الجيوسياسية المستمرة، يجعل من تطوُّر التدابير الهجومية والدفاعية في الطيف أمراً محتملاً للغاية. يقدم هذا المقال رؤى حول مدى أهمية الطيف الكهرومغناطيسي في الحياة العسكرية، وأهميته في جهود التحديث بالنسبة للقوى العالمية الرئيسية والإمكانيات التكنولوجية المتوقع ظهورها في الحرب الكهرومغناطيسية )المستقبلية).
اعتماد الجيوش الحديثة على الطيف الكهرومغناطيسي
منذ أكثر من قرن من الزمن، عند إطلاق الاتصالات اللاسلكية، والمنظمات العسكرية تستغل النطاق الكامل للترددات لدعم العمليات وجمع المعلومات الاستخبارية. أتاح التقدم التكنولوجي في الطيف الكهرومغناطيسي تمكين الكثير من القدرات والمفاهيم العسكرية الجديدة، بما في ذلك أي شيء يتعلق بالعمليات متعددة المجالات وحرب الشبكات. ترتبط فعالية عدد كبير من أنظمة الأسلحة المعاصرة في جميع المجالات، سواء كانت فرقاطات أو طائرات أو دبابات، بحرية العمل في الطيف الكهرومغناطيسي، وكذلك الحال بالنسبة لأنظمة القيادة والتحكم والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (C2ISR).
على سبيل المثال، سيتم إعاقة القوات المسلحة الحديثة إذا ما حُرمت من استخدام أنظمة رادار للكشف اللاسلكي ولتحديد المديات التي تساعد على رسم صورة عامة وواضحة لساحة المعركة، كما تمكِّنها من تحديد مواقع القوات الصديقة والمعادية. يستخدم الرادار الترددات الراديوية والميكروويفية ويُكمِّله الآن في بعض الأحيان أنظمة الكشف الليزرية عن المدى (LiDAR)، والتي على سبيل المثال تمكِّن المركبات بدون سائق وقانصات الألغام. تستخدم أنظمة LiDAR نبضات الليزر لتحديد المسافة والسرعة والموقع لجسم أو سطح معين. تستخدم فئة أخرى من الأنظمة انبعاث البيانات من الطيف لجمع المعلومات الاستخباراتية، على سبيل المثال عن طريق رسم خرائط لتركيزات الحرارة التي تشير إلى وجود قوات أو مركبات أو طائرات أو صواريخ. عادة ما تستخدم الصواريخ نفسها الرادار أو الأشعة تحت الحمراء لتحديد الأهداف بعد الإطلاق.
أدى الاستخدام الأوسع للطيف الكهرومغناطيسي أيضاً إلى تبعيات أكثر أهمية وبالتالي إلى نقاط ضعف كبيرة للقوات المسلحة الحديثة. يمكن أن يحدث خداع على مراحل، ويمكن أن تتعطل وتتلف الأنظمة المهمة مثل الرادارات والاتصالات. ونتيجة لذلك، هناك أيضاً زيادة في الأنظمة التي تهدف إلى الحماية والدفاع عن الإجراءات في الطيف، والتي غالباً ما تأخذ شكل تشفير متطور وحماية للإشارات والتدابير الإلكترونية المضادة.
تحدي الهيمنة الأمريكية
في أكتوبر 2020، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية «استراتيجية التفوق في الطيف الكهرومغناطيسي». نقطة انطلاقها هي الملاحظة التي مفادها أن «الإدارة تواجه تحدياً للحفاظ على وضمان الوصول، والاستخدام، وإطلاق النيران، والمناورة داخل الطيف الكهرومغناطيسي وخارجه. ويهدد هذا قدرة الجيش الأمريكي على الاستشعار والقيادة والسيطرة والاتصال والاختبار والتدريب والحماية واستعراض القوة بشكل فعال». خلال هذه الاستراتيجية، هناك اعتراف بأن خصوم الولايات المتحدة يسعون لاستغلال ضعف اعتماد الجيش الأمريكي على القدرات المُعتمِدة على الطيف الكهرومغناطيسي.
تفاقمت نقاط الضعف هذه في العقود الثلاثة الماضية. مع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، أوقف الجيش الأمريكي أجزاء كبيرة من برامج الحرب الإلكترونية. بدلاً من ذلك، تحول التركيز نحو حملات وعمليات مكافحة الإرهاب التي كان الخصوم الرئيسيون يعملون فيها بقاعدة تكنولوجية منخفضة. لفترة طويلة، ظلت هيمنة الولايات المتحدة على الطيف الكهرومغناطيسي بلا منازع، مما أدى إلى إهمال القدرة على حماية حرية التصرف في الطيف والدفاع عنها. لكن حرية العمل هذه آخذة في التضاؤل. في كثير من الأحيان، تواجه القوات الأمريكية )وحلفاؤها( بيئة معلومات متدهورة.
في الاستراتيجيات والعقيدة الأمريكية، تم تحديد الطيف الكهرومغناطيسي منذ فترة طويلة على أنه عامل تمكين للعمليات العسكرية، ولكنه ليس ميدان لمقاتلين مستقلين. ومع ذلك، فإن التحديات الحالية والمستقبلية التي يطرحها المنافسون القريبو المستوى قد تتسبب في تغيير ذلك.
تحدِّ من روسيا
في إطار برامج التحديث العسكري، تتعامل روسيا مع الحرب الإلكترونية باعتبارها مجالاً ذا أولوية، بما يتماشى مع الاستراتيجية والعقيدة الروسية للتركيز على العمل فيما يسمى بالمنطقة الرمادية بين الحرب والسلام. يمكن للحرب الكهرومغناطيسية أن تخلق معركة بدون تماس والتي تعطل وتحبط معنويات الخصم دون اتصال جسدي حركي. تُستخدم بيئة المعلومات كمجال قتال حربي نشط وهذا يشمل الطيف الكهرومغناطيسي، وهو مساحة مثالية لإحراز ميزة غير متكافئة على الخصوم المحتملين.
تمتلك روسيا عدداً كبيراً من أنظمة تطوير الحرب الكهرومغناطيسية، وقد تم اختبار بعضها أو إثباتها في الصراعات في أوكرانيا وسوريا. لكن تم الإبلاغ أيضاً عن حوادث خارج مناطق النزاع، على سبيل المثال أثناء مناورات (الناتو) في النرويج، بالقرب من الحدود الروسية. من بين الأنظمة المتاحة للقوات المسلحة الروسية أنظمة Borisoglebsk-2 وMoskva-1 وKrasukha وأنظمة الحرب الإلكترونية «سمرقند» وRosevnik-AERO وأنظمة التشويش المحمولة على الشاحنات وأنظمة المراقبة اللاسلكية. روسيا قادرة على تشويش اتصالات الأقمار الصناعية المتنقلة والملاحة اللاسلكية، وتعطيل هجمات الطائرات بدون طيار (بما في ذلك الأسراب)، ومراقبة الانبعاثات الإلكترونية على مدى مئات الكيلومترات والإشارات المخادعة باستخدام نظام يحاكي أو يؤثر على إشارات نظام الملاحة العالمي عبر الأقمار الصناعية (GNSS)، مثل GPS. يمكن توليد هدف مزيف يؤدي على سبيل المثال إلى طائرة، بعيدة عن كونها هدفاً أصلياً، يمكنه تعطيل الملاحة البحرية. وهذا يفضي إلى بيانات مزيفة لتحديد المواقع والملاحة والتوقيت (PNT).
تحدٍّ من الصين
يعمل جيش التحرير الشعبي الصيني بشكل مطّرد على بناء الخبرات والتجارب في الحرب الكهرومغناطيسية. وفقاً للتقارير، أصبحت الصين الآن قريبة من التكافؤ، وفي بعض الحالات تجاوزت بالفعل الولايات المتحدة في هذا المجال. تماشياً مع عقيدة جيش التحرير الشعبي الصيني القائمة على مفهوم «الدفاع النشط»، يعتبر الطيف الكهرومغناطيسي منطقة مثالية لاتخاذ إجراءات استباقية وهجومية ودفاعية في وقت السلم (تهدف إلى منع الصراع غير المرغوب فيه). تميل الاستراتيجيات الصينية أيضاً إلى التأكيد على تكامل أدوات الدولة المختلفة في متناول اليد. في هذا المجال، يعني تكامل ومزامنة شبكات الكمبيوتر والحرب الإلكترونية وقدرات الضربات الحركية. استعداداً للمستقبل، تؤكد السلطات الصينية أيضاً على التحديث من خلال دمج التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي (AI).
وفقاً للتقرير السنوي لعام 2020 المقدم إلى الكونغرس الأمريكي حول التطورات العسكرية والأمنية لجمهورية الصين الشعبية، تستهدف الحرب الإلكترونية في الصين أنظمة معادية تعمل في مجالات الراديو والرادار والميكروويف والأشعة تحت الحمراء والمجالات البصرية، بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والمعلومات الخاصة بالخصم. في عام 2015، أنشأت الصين قوات الدعم الاستراتيجي. أصبح هذا فرعاً جديداً من اندماج جيش التحرير الشعبي وتطوير قدراته في مجال الحرب الإلكترونية والفضائية. ووضع جيش التحرير الصيني مفهوماً مبتكراً لدمج هذه المجالات والبيئات المختلفة موضع الاستخدام العملي. في السنوات الأخيرة، أجرت الصين العديد من التدريبات والتمارين العسكرية في عمليات التشويش والمضادة للتشويش وغيرها من أشكال الحرب الإلكترونية.
أشكال (مستقبلية)
في الوقت الحالي، يعد التشويش والخداع أكثر أشكال الحرب الكهرومغناطيسية شيوعاً. يتسبب التشويش في حدوث ضوضاء في نطاقات التردد التي تتداخل مع الهوائيات. تنتشر التكنولوجيا التي تقوم بذلك على نطاق واسع وبأسعار معقولة للعديد من الجهات الفاعلة. الخداع ظاهرة أخرى آخذة في الازدياد. ومن خلال الخداع، يتم خداع جهاز الاستقبال بحيث يسيء تقدير الإشارات الزائفة ويعتبرها حقيقية. من الأمثلة التي كثيراً ما يتم اقتباسها هو خداع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي حدث في ميناء شنغهاي. يبدو أن هذا كان للتلاعب بجهاز الإرسال والاستقبال لنظام التعرف التلقائي (AIS) الذي تحمله جميع السفن تقريباً (وفقاً لما يقتضيه القانون الدولي) والتي تبث هوية السفن القريبة وموقعها ومسارها وسرعتها. في حالة ميناء شنغهاي، منذ عام 2018، واجهت العديد من السفن مشاكل مع نظام AIS، حيث كانت، على سبيل المثال ترى على الشاشة سفينة أخرى قادمة نحوها بسرعة عالية، بينما كانت السفينة في الواقع ترسو.
في المستقبل، من المرجح أن يلعب تكامل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتطوير الإضافي لأسلحة الطاقة الموجهة، بما في ذلك الليزر والميكروويف عالي الطاقة (HPM)، دوراً أكبر في الحرب الكهرومغناطيسية. يمكن للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي تسريع معالجة الإشارات بشكل كبير. لطالما كانت أسلحة الليزر محوراً للبحث والتطوير، ولكن يبدو أخيراً أنها تنضج للاستخدام العملي. وهذه الأسلحة لديها القدرة على تدمير الأقمار الصناعية أو الطائرات بدون طيار أو أجهزة الاستشعار. يمكن للأسلحة المكرويفية عالية الطاقة HPM بدورها تعطيل الأنظمة وإتلافها عن طريق إطلاق «رشقات كهرومغناطيسية»، مع خرج عالٍ جداً خلال فترة زمنية قصيرة. من المرجح أن تصبح مسائل الإسناد والتنظيم وقانونية (أو عدم قانونية) استخدام البشر لمثل هذه الأنظمة، أكثر بروزاً في المناقشات الدولية أيضاً.
في الوقت الحالي، سيظل نظام الطيف الكهرومغناطيسي عاملاً مساعداً حاسماً للعمل العسكري الحديث. ولكن، نظراً للتطورات التكنولوجية واستعداد الجهات الفاعلة للانخراط في حرب
كهرومغناطيسية، يشير الاتجاه إلى تحول الطيف إلى مجال قتال حقيقي أيضاً. الرواية التي قام بتأليفها الأميرال المتقاعد بالبحرية الأمريكية جيمس ستافريديس مؤخراً تحت عنوان «2034» هي رواية خيالية. ومع ذلك، فإنها تعكس القلق (الأمريكي) الحالي بشأن تراكم قدرات الحرب الإلكترونية لدى أعداء الولايات المتحدة المحتملين. تحكي الرواية قصة الحرب العالمية القادمة، حيث تلعب العمليات في الطيف الكهرومغناطيسي دوراً رئيسياً على المستويات الاستراتيجية والتشغيلية والتكتيكية، في كل مرحلة من مراحل الصراع.
» د. ساسكيا فان جنوجتن
مستشار سابق بوزارة الدفاع في هولندا، ومستشار مستقل في شؤون الدفاع والأمن
ومالك لمركز «Sqirl Analysis للتحليل»