الجيوش

النهوض بالجيوش الوطنية في المنطقة ضرورة ملحة في ظل تهديدات متزايدة

كثيراً ما تنظر الدراسات التي تتعلق بالتنمية، خاصة في منطقتنا العربية، إلى الإنفاق العسكري باعتباره معوقاً للتنمية أو خصماً منها، وتتم الإشارة في ذلك إلى تجارب بعض الدول في العالم التي عملت في مسيرة نهوضها التنموي والاقتصادي على تقليل الإنفاق العسكري وإعادة توجيهه إلى المجالات الأخرى. ومن ثم تطالب هذه الدراسات بتقليل الإنفاق العسكري كشرط للنهوض والتنمية!!
لكن إذا نظرنا إلى المنطقة العربية، فإننا سنجد أن لها خصوصيتها، التي تجعل ما تذهب إليه مثل هذه الدراسات موضع نقاش كبير لثلاثة أسباب:
الأول: أن هذه الدراسات تتجاهل الظروف والمعطيات التي تتواجد فيها الجيوش، من حيث مساحة التهديد والخطر فيها، وحدودها ومتطلبات التعامل معها، وما إذا كانت تهديدات ومخاطر عادية أم إنها تستهدف كيانات الدول والمجتمعات بل ووجودها ذاته.
الثاني: أن هذه الدراسات لا تنظر إلى الإنفاق العسكري إلا بكونه شراً مطلقاً، وتتبنى نظرة سلبية إلى الجيوش ودورها بشكل عام، ومن ثم تتجاهل الجوانب التنموية المهمة المرتبطة بالإنفاق العسكري وعمل المؤسسات العسكرية كما هو الحال في دول العالم المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تشير الإحصاءات إلى أن الصناعات العسكرية والفضائية فيها تولد نحو ثلاثة ونصف المليون وظيفة بطريقة مباشرة وغير مباشرة. ناهيك عن أن هناك العديد من الاختراعات التي خرجت من رحم الجيوش وغيرت وجه العالم مثل: البنسلين، وموجات الراديو والرنين، والوقود الاصطناعي، والحاسوب، ونظام “سيري” في آيفون، وغيرها.
الثالث: أن المؤسسة العسكرية لها دور أساسي في حماية المكتسبات التنموية في الدول المختلفة، وتوفير البيئة الآمنة لتحقيق التنمية والدفاع عنها. ولنا في تجارب دول عديدة في المنطقة الدرس والعبرة؛ حيث أدى انهيار جيوشها إلى انهيار مؤسسات الدولة وضياع كل ما حققته من تنمية على مدى سنوات طويلة، بل ودخولها في حالة حرب أهلية داخلية مدمرة.

وضمن هذا السياق يمكن القول إن النهوض بالجيوش الوطنية في المنطقة العربية بشكل عام، ومنطقة الخليج العربية على وجه الخصوص، والارتقاء بها وبقدراتها، يمثل أولوية كبرى وضرورة ملحة، خلال المرحلة الحالية، لأسباب كثيرة أهمها:
1-أزمات ممتدة: تعاني المنطقة العربية من صراعات وأزمات تشير كل المعطيات إلى أنها صراعات ممتدة؛ بمعنى أنها لن تجد طريقها الى التسوية أو الحل في وقت قريب وإنما تحتاج لسنوات لا يمكن التنبؤ بعددها، في ضوء ما يحيط بها من تعقيد وما تتسم به من عوامل التأجيج والانفجار، سواء كانت دينية أو عرقية أو مذهبية أو غيرها، وهذا ما يبدو من الأزمات في ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان وغيرها. وهذه الأزمات تعد مصدراً مستمراً للتهديد وعدم الاستقرار في المنطقة، ما يحتاج من دولها إلى تقوية جيوشها لمواجهة هذه التهديدات والمخاطر.
2-المطامع الإقليمية: وهي ما تبدو في مشروعات الهيمنة الإقليمية الدينية أو المذهبية لكل من تركيا وإيران، وهي مشروعات تستهدف المنطقة العربية بشكل خاص، وتقوم على دعاوى خطيرة تمثل تهديداً لمصالح دول المنطقة وأمنها واستقرارها؛ لأنها تعمل على التدخل في شؤونها الداخلية، وبناء القواعد العسكرية والميليشيات المسلحة فيها. وهذان المشروعان؛ التركي والإيراني، يتصاعد خطرهما بشكل واضح، وتتكشف نواياهما التوسعية، وفشلت محاولات التفاهم أو الاحتواء معهما على مدى سنوات طويلة، ومن ثم تأتي أهمية تعزيز القدرات الذاتية في التعامل معهما وخاصة القدرات العسكرية.
3-الإسلام السياسي والعداء للدولة الوطنية: الإسلام السياسي بزعامة جماعة الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من الضربات القوية التي تم توجيهها لهذا التنظيم على مدى السنوات الماضية، فإنه لا يزال يقاوم ولديه القدرة على التهديد، والتمدد والتسلل داخل المجتمعات بطرق يعرفها وتدرب عليها على مدى سنوات طويلة. خطورة هذا التيار أنه لا يعترف أصلاً بالدولة الوطنية ويعمل على تفكيكها والسطو عليها، لصالح مشروعات دينية فوق وطنية، ويعتبر أن الجيوش الوطنية هي عدوه الأول لأنها هي التي تقف في وجه مشروعاته، ولعل دور الجيش المصري بعد عام 2011 في مواجهة جماعة الإخوان هو مثال على ذلك؛ حيث أنقذ مصر والمنطقة كلها من السيطرة الإخوانية. ولذلك تعمل جماعة الإخوان دائما على إضعاف الجيوش الوطنية والنيل منها وتشويه سمعتها. وفي مواجهة هذا التيار الخطير من المهم تقوية الجيوش الوطنية للدفاع عن كيان الدولة وصيانة وحدة المجتمعات.
4-الميليشيات فوق الدولة: هناك ميليشيات مسلحة ذات طبيعة مذهبية أو دينية أو غيرها، تريد، أو تريد القوى التي تقف وراءها وتسلحها وتوجهها، أن تختطف الدولة وتسيطر على قرارها بقوة السلاح، وهو ما يتضح بشكل جلي في حالة حزب الله في لبنان وحركة الحوثيين في اليمن، فضلاً عن الميليشيات المسلحة التابعة لحكومة فايز السراج في ليبيا، والميليشيات المسلحة في العراق. كما أن تقارير عديدة تحدثت عن أن الإخوان المسلمين سعوا إلى تشكيل ميليشيات مسلحة تابعة لهم خلال العام الذي حكموا فيه مصر، شبيهة بالحرس الثوري الإيراني. وفي مواجهة هذه الميليشيات من المهم تقوية الجيوش الوطنية وتعزيز قدراتها؛ فعلى سبيل المثال فإن أحد أسباب تصاعد قوة الميليشيات في العراق هو ضعف الجيش، ولذلك تعمل هذه الميليشيات على عدم تقوية المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الذي تعمل عليه ميليشيات حزب الله في لبنان كذلك.
5-الجيوش حامي كيان الدولة في وقت الأزمات: في الأزمات الكبرى ومنها أزمة وباء كورونا، أثبتت الجيوش أنها الأكثر قدرة وفاعلية وجاهزية على التعامل معها واحتواء آثارها، وتقديم الدعم الحقيقي لمؤسسات الدولة في هذا الخصوص. وقد لجأت إليها دول كثيرة حول العالم للتصدي لأزمة الوباء على رأسها دول كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وغيرها، فضلاً عن دول عربية عدة. وهذا لأن المؤسسات العسكرية هي الضامن لكيان الدولة ووجودها واستقرارها وسلامة مؤسساتها في كل الأوقات وخاصة في فترات الأزمات. وبما أن العالم يعيش عصر المخاطر، كما تذهب الى ذلك الدراسات المتخصصة، فإن هذا يعني أن حدوث الأزمات أصبح أكثر توقعاً وتكراراً، ما يزيد من أهمية دور المؤسسة العسكرية وجاهزيتها.
6-الدور التنموي للجيوش: للجيوش في المنطقة العربية دور تنموي كبير؛ بمعنى إنها تشارك في صنع التنمية ودفعها إلى الأمام، ولعل تجربة الإمارات ذات أهمية كبيرة في هذا الشأن من خلال الدور الذي تقوم به الصناعات الدفاعية في تعزيز الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر دخله. كما أن الجيش في مصر يقدم نموذجاً آخر في دعم التنمية من خلال مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي يقوم بها. وهذا يعني أن الجيوش لا تحمي التنمية فحسب وإنما تصنعها أو تشارك في صنعها كذلك.
7-تراجع الرهان على الحماية الدولية: في ظل التحولات التي يمر بها العالم والتغيرات التي تلحق بالتوازنات فيه وتوجهات القوى الكبرى وسياساتها، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين، فإن القدرات الذاتية هي الضامن الأول والأخير للدفاع عن الوطن وحماية مصالحه، بالنظر إلى انشغال القوى الكبرى بالصراع فيما بينها، وتراجع اهتمامها بقضايا الأمن والسلام الدوليين. وهذا يجعل تعزيز قدرات الجيوش الوطنية أمراً على درجة كبيرة من الأهمية، حيث لا يمكن الاعتماد إلا على النفس في الدفاع عن سيادة الأوطان ومصالحها وأمنها الوطني.

مصطفى جابر (باحث في الشؤون السياسية)

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض