يربط مضيق ملقا المحيط الهندي بالمحيط الهادئ، ومنطقة الشرق الأوسط باليابان والصين، ويعتبر ممراً حيوياً للصادرات والواردات، وهو أقصر قناة للنقل البحري. وفي ناحية الغرب نجد مضيق جبل طارق الذي يتيح الخروج من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي والوصول إلى دول أوروبا وأمريكا الشمالية. ويمثل كلا المضيقين شريانين حيويين لسلسلة الإمداد الحديثة، ويخضعان لحماية الدول التي تمتلك الغواصات المتاخمة لهما مباشرة.
وبالقرب من مضيق ملقا يقوم سلاح البحرية السنغافورية بتحديث قواته بست غواصات منها اثنتان من طراز «تايب 218 إس جي»، فيما تضخ الصين استثمارات هائلة لإنتاج غواصات جديدة، وهو ما تقوم به اليابان والهند وأستراليا وإندونيسيا والفلبين أيضاً. وبالقرب من مضيق جبل طارق عملت البحرية الجزائرية على زيادة عدد الغواصات من طراز «كيلو636» وبعضها مسلح بصواريخ «كلوب» Club .
ويعتبر مضيق هرمز أهم ممر مائي للخروج من الشرق الأوسط، وهو مسؤول عن المرور الآمن للشحنات النفطية التي تقدر قيمتها بـ 1,2 مليار دولار يومياً. وفي مجال الغواصات نجد أن القوات الإيرانية تمتلك أكثر من 30 غواصة صغيرة وساحلية، وعندما تقوم دولة ما بتطوير هذا العدد من الغواصات فمعنى هذا أنها تعتمد على خطط دفاعية وهجومية لخدمة مصالحها الوطنية. وفي ناحية الشرق من إيران، نجد أن كمبوديا هي الدولة الوحيدة التي ليس لديها أي غواصات أو ليست لديها أي خطط حالية لشراء غواصات. ورغم هذا، ومن ناحية الغرب لا توجد أي قوة بحرية مسلحة بغواصات إلى أن يصل المرء إلى مصر.
سلاح ذي قوة مضاعفة
تنتمي أي دولة مسلحة بغواصات إلى نادي رواد البحرية، وتعتبر الغواصة أعلى الأيقونات تكلفة وأكثرها سرية بالنسبة لأي قوة بحرية أو اتحاد أو تحالف. ويعتبر عنصر المرونة العامل الحاسم الذي يحدد وضع الغواصة وسعرها، حيث تستطيع غواصة تقليدية واحدة أداء أو المشاركة في تنفيذ 67% من المهام البحرية التي تهم دول مجلس التعاون الخليجي مثل حماية منشآت النفط والغاز البحرية ضد العمليات الإرهابية وبناء قدرات مضادة هائلة ضد الحرب البحرية غير المتكافئة وتعزيز الأجهزة السطحية والتحت-مائية المكلفة بعمليتي الرصد والمراقبة. وتؤمن الغواصة قدرات دفاعية وهجومية فريدة وغير منظورة عند مقارنتها بالقطع البحرية السطحية والقوات الجوية التابعة لسلاح البحرية التي يمكن كشفها بمجرد النظر أو بسبب الضوضاء الصادرة عنها. وتلك هي إحدى المميزات الهامة عند استخدام الغواصات. وتعتمد نظرية الغواصة وعمليات تشغيلها على السرية التامة. وتشرف المؤسسة العسكرية الوطنية على قيادة غواصاتها والتحكم فيها دون الإفصاح عن عملياتها.
وتتباين مهام الغواصات حسب المستويات الاستراتيجية أو العملياتية أو التعبوية، وقد أثبت التاريخ أن عمليات الغواصات يمكن أن تساهم في نشوب النزاعات الدولية مثل إغراق الغواصات الألمانية للسفينة البريطانية RMS Lusitania، أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو ما ساهم في دخول الولايات المتحدة الحرب ضد ألمانيا أو إنهائها مثل إغراق غواصة بريطانية للطراد الأرجنتيني ARA General Belgrano في عام 1982، في حرب الفوكلاند.
وتعتبر الغواصة سلاحاً متاحاً أمام الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، وتقوم الدول ذات الإمكانيات الاقتصادية المحدودة نسبياً بضخ استثمارات في سلاح الغواصات باعتباره سلاحاً غير مرئي قادراً على الاشتباك مع العدو أو يفرض عليه ضرورة امتلاك قدرات أكبر. وفي ظل وجود الغواصات ضمن تشكيلة القوات المسلحة تستطيع أسلحة البحرية رفع قدراتها التالية: إعداد القوات عن طريق التدريب والتمارين، جمع المعلومات الاستخباراتية، والمراقبة والاستطلاع، والمعلومات المتعلقة بالبيئة، وإجراء المناورات تحت الماء، والاشتباك مع العدو تحت الماء، ودعم وتحريك القوات ومنع أي هجوم حركي أو غير حركي من فوق سطح الماء أو تحته.
وتعتبر الغواصات منصات فائقة القدرة ويمكنها عمل الردع غير المتكافئ ضد أي عدو أكثر قوة وتفوقاً. كما تستطيع الغواصات أيضاً جمع المعلومات الاستخباراتية ومعلومات المراقبة وتوفير الحماية التامة للقوات البرمائية وإنزال القوات الخاصة. وتقوم كل غواصة بتنفيذ المهام التي يصعب رصدها، وتستطيع الغواصات تنفيذ العمليات البعيدة المدى وأن تنفذ العمليات القتالية بطريقة مستقلة بالقرب من القواعد العسكرية والمرافئ البحرية المعادية، وتعتبر الخيار الأول بالنسبة لمعظم العمليات الهجومية. كما أن الخيارات الاستراتيجية والعملياتية والتعبوية لاستخدام الغواصات تبرر تكلفتها. وحتى الغواصة الصغيرة والغواصة التقليدية تؤمنان خيارات رادعة مماثلة، كما أنهما تمنعان الغواصات المعادية – كحد أدنى- من العمل في المياه الإقليمية أو بالقرب منها.
شراء الغواصة أم بناؤها؟
يشهد العالم في الوقت الحالي فترة نمو متسارع في الغواصات، وبحلول عام 2030 سيصل عدد الغواصات في منطقتي شرق وجنوب شرق آسيا إلى 288 غواصة، مقابل 200 غواصة فقط في عام 2010. أحدث وأكبر هذه الغواصات هي المشروع الأسترالي لتصميم وبناء أسطول مكون من 12 غواصة تقليدية بالتعاون الوثيق مع «المجموعة البحرية الفرنسية». ومن المقرر تسليم أول غواصة في مطلع العقد الرابع من القرن الحالي وتسليم آخر غواصة خلال سنوات العقد السادس من القرن نفسه.
ولكن كيف يمكننا التنبؤ بميدان القتال في المستقبل؟ نقطة البداية دائماً ما تنطلق من تحليل الرؤية والاستراتيجيات الوطنية وتقييم الخطط الحالية التي تنتظر القوات والتحديات التي تواجهها، ومن ثم مواءمتها مع قدرات الخصوم المحتملة على المديين القصير والطويل. وبناء على تلك الحسابات يمكن ترجمة كافة المتطلبات إلى مهام وقدرات عسكرية أو بحرية. وعادة ما ينتهي هذا التحليل بالغواصات كأفضل خيار لتلبية متطلبات هذه المهام والقدرات البحرية.
ثمة سوق محدودة نوعاً ما لشراء غواصات جديدة، وتزداد قائمة الانتظار طولاً يوماً بعد يوم، ليس من أجل شراء غواصات جديدة فحسب، بل لتنفيذ خطط التحديث على المدى المتوسط أيضاً أو حتى تنفيذ خطط التحديث التخصصية أو إجراء عمليات الصيانة. وهناك صعوبة كبيرة في بناء الغواصات، ناهيك عن بنائها بعيداً عن الأعين. وتعتبر الغواصات أكثر المنصات البحرية تعقيداً، حيث تضم الغواصة التقليدية العادية أكثر من 110 أنظمة إذا ما قورنت بالأنظمة الثانوية الستين التي تضمها الفرقاطة أو المدمرة. وإذا قارنا بين الغواصة بالفرقاطة نجد أن الأولى تحتاج إلى ساعات عمل مضاعفة لتجميعها وثلاثة أضعاف قطع الغيار وثلاثة أضعاف الموردين وثلاثة أضعاف الوقت اللازم لبنائها. وتركز ترسانات السفن العالمية على تلبية المشتريات البحرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بعمليات الغواصات فمن الأفضل دائماً بناء الغواصة داخل الترسانة البحرية للدولة المعنية.
الخلاصة
تعتبر قدرات الغواصات أسلحة معادلة equalisers ومنصات مضاعفة للقوة force multipliers بالنسبة لأسلحة البحرية الوطنية، وتؤدي مجموعة كبيرة من الوظائف الهجومية والدفاعية. وغالباً ما ينحصر دور الغواصة في وقت السلم في تأمين الردع اللازم لأي عدو محتمل. أما في وقت الحرب، وبسبب تعدد الطرق البحرية المحتملة التي قد يتخذها العدو، فمن الضروري منع العدو بكل قوة من الاقتراب، وذلك عن طريق استخدام الغواصات التي يجب أن تركز على خطوط الاتصال البحرية الاستراتيجية كأولوية قصوى. وتعتبر الغواصات منصات باهظة التكلفة ولكنها تتمتع بمرونة كافية لوضع الدول في مصاف النخبة.
» زيغنيو تلالكا )رائد بحري متقاعد(