أدى الارتفاع الحاد في الإنفاق العسكري في سياق بيئة أمنية دولية غير متوقعة وغير مستقرة منذ الحرب الروسية الأوكرانية، إلى دفع الكثير من الحكومات في مختلف أنحاء العالم لإعادة التفكير في فلسفتها واستراتيجياتها المتصلة بالمشتريات الدفاعية.
بحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بلغ الإنفاق الدفاعي العالمي 2.46 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، ليرتفع من 2.24 تريليون دولار أمريكي في عام 2023. كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، زاد الإنفاق العالمي من متوسط1.59% في عام 2022 إلى 1.80% في عام 2023 و1.94% في عام 2024. ولقد تم استخدم الجزء الأكبر من هذه الأموال لشراء أنظمة أسلحة جديدة ومعدات عسكرية، مثل المدفعية والأسلحة الصغيرة والمركبات الآلية والمدرعة والطائرات العسكرية والمروحيات والسفن الحربية والغواصات، فضلاً عن مجموعة واسعة من المنتجات الدفاعية الأخرى. وفي هذا السياق، أدت المخاوف المتزايدة بشأن تأخير التنفيذ وتجاوز التكاليف والتحديات الأخرى في مشاريع المشتريات الكبرى في بعض البلدان إلى تجدد الاهتمام بمراجعة هيكلة المؤسسات والآليات المتصلة بالمشتريات الدفاعية.
تهدف هذه الدراسة إلى فهم تعقيد المشتريات الدفاعية من خلال دراسة الحالة الكندية، وذلك بإلقاء الضوء أولاً على الهيكل التنظيمي وأدوار الفاعلين المنوط بهم تنفيذ استراتيجية الاستحواذ الدفاعي الكندية، وثانياً لتعيين وتحليل أهدافها. وأخيراً في الخاتمة نستعرض أهم المشكلات التي تعقد المشتريات الدفاعية والتوصيات التي تقدمها الأدبيات الوازنة لتعزيز كفاءة المشتريات الدفاعية في ظل التعقيد.
أولاً: النموذج والهيكل التنظيمي وأدوار الفاعلين
في كندا، تُعد المشتريات الدفاعية عملية معقدة تشارك فيها عدة وزارات فيدرالية، أبرزها: وزارة الدفاع الوطني وخفر السواحل الكندي، والخدمات العامة والمشتريات، والابتكار والعلوم والتنمية الاقتصادية، ووزارة المالية. وتُعتبر هذه المقاربة اللامركزية والمتعددة الأطراف في إدارة المشتريات الدفاعية نموذجاً فريداً على مستوى العالم.
ففي المقابل، تعتمد الدول الصناعية الأخرى نماذج مختلفة في هذا المجال؛ إذ تسند بعض الدول مسؤولية المشتريات الدفاعية مباشرة إلى القوات المسلحة المعنية، بينما توكلها دول أخرى إلى وزارات الدفاع، أو إلى هيئات مركزية للدفاع، أو وكالات حكومية مستقلة عن وزارة الدفاع، بل قد تكون مؤسسات مجتمع مدني مستقلة عن الحكومة هي المسؤولة عن تلك العمليات )انظر الجدول بالأعلى)
يظهر الجدول بالأعلى أنه في العديد من الدول، تكون القوات المسلحة (الجيش والبحرية والقوات الجوية) مسؤولة عن الحصول على أنظمة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تحتاجها، ما يتيح للقوات المسلحة ممارسة سيطرة شبه كاملة على أنشطة المشتريات الدفاعية الخاصة بها. وتعد الولايات المتحدة من بين الدول التي تستخدم نموذج المشتريات الدفاعية اللامركزية هذا.
وفي بعض الدول، تتحمل وزارة الدفاع المسؤولية الكاملة عن اقتناء أنظمة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تحتاجها القوات المسلحة في البلاد. وفي هذا السياق، تقوم وزارة الدفاع في أغلب الأحيان بكل المهام المتعلقة بمراحل عملية شراء وتسليم المشتريات الدفاعية للقوات المسلحة، وتعد الهند من بين الدول التي تقع مسؤولية المشتريات الدفاعية للقوات المسلحة على عاتق وزارة دفاعها.
وقد أنشأت عدد من الدول الأخرى وكالات دفاعية مركزية مستقلة عن الجيش ولها ميزانياتها الخاصة تعهد إليها بإدارة عملية المشتريات الدفاعية الخاصة بها. وتتولى هذه الجهات مسؤولية الحصول على كافة أنظمة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تحتاجها القوات المسلحة للبلاد. ففي فرنسا، على سبيل المثال، هناك هيئة حكومية واحدة مسؤولة عن المشتريات الدفاعية وهي المديرية العامة للتسليح DGA.
كما تقوم بعض البلدان بمركزية مشترياتها الدفاعية داخل وزارة أو وكالة حكومية واحدة مستقلة عن وزارة الدفاع. وفي تُدار هذه الهيئات أغلب الحالات، من قبل سلطات مدنية، ولها سلاسل قيادة وميزانيات مستقلة. ففي كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، تعد إدارة برنامج المشتريات الدفاعية (DAPA)، التي يترأسها وزير المشتريات الدفاعية، الوكالة الحكومية المسؤولة عن المشتريات الدفاعية والإنتاج.
وفي بعض الدول الأخرى، يتم تفويض المشتريات الدفاعية إلى وكالات مدنية مملوكة للدولة أو مملوكة للقطاع الخاص. وهذا هو الحال في السويد التي أسست إدارة المواد الدفاعية السويدية، في عام 1968 كسلطة مدنية تمثل الحكومة السويدية في المسائل المتعلقة بالمشتريات الدفاعية.
وكل تلك النماذج تؤكد أن المشتريات الدفاعية في كندا عملية معقدة وعبر وزارية. ولكن في النهاية، تدير كل دولة عملياتها المتصلة بالمشتريات الدفاعية من خلال نماذج وهياكل مصممة خصيصاً لتلبية احتياجات ومتطلبات قواتها المسلحة، ومع الأخذ في الاعتبار اقتصادها وبنيتها التحتية الصناعية الدفاعية.
وفي السنوات الأخيرة، اتخذت العديد من الحكومات تدابير لإصلاح وتبسيط منظمات وعمليات المشتريات الدفاعية الوطنية بهدف تحسين إدارة المواد الدفاعية وتسريع عملية الحصول عليها. ومن جانبها وفي عام 2014 ومن أجل تعزيز كفاءة المشتريات الدفاعية، أطلقت الحكومة الكندية، بالتعاون مع أصحاب المصلحة وعلى رأسهم قطاع التصنيع الدفاعي الوطني، استراتيجية الاستحواذ الدفاعي الكندية، بهدف تحديث وتحديد أدوار الوزارات المعنية بوضوح، وذلك كالتالي:
وزارة الدفاع الوطني (DND) وخفر السواحل الكندي (CCG) يتحملان مسؤولية تحديد الاحتياجات الدفاعية ومواصفاتها، وتحليل خيارات الشراء، وتقدير التكاليف، والحصول على الموافقات الأولية والتمويل، إضافة إلى تقديم الخبرة الفنية وإدارة تكامل الأنظمة والخدمات عبر جميع مراحل الشراء، والإشراف على البرامج من بدايتها حتى إنجازها وتسليمها.
وزارة الخدمات العامة والمشتريات الكندية (PSPC) تتولى قيادة مشاركة أصحاب المصلحة والقطاع الصناعي قبل وأثناء عملية الشراء، وتطوير استراتيجيات المشتريات، وقيادة عملية الدعوة إلى تقديم العطاءات، والإشراف على التقييمات الفنية وتحليل الأسعار، فضلاً عن إدارة العقود الناتجة وتقييم أداء الموردين.
وزارة الابتكار والعلوم والتنمية الاقتصادية الكندية (ISED) تتولى إدارة السياسات الصناعية والتكنولوجية المرتبطة بالمجال الدفاعي وعائداته الاقتصادية، كما تقدم التوصيات بشأن تطبيق هذه السياسات على صفقات الشراء، وتحدد معايير التقييم الهادفة إلى تعظيم الفوائد الاقتصادية للعقود، بالاستفادة من مشورة وزارة الشؤون العالمية الكندية (GAC).
ثانياً: أهداف استراتيجية الاستحواذ الدفاعي الكندية
1. توفير المعدات المناسبة للقوات المسلحة الكندية وخفر السواحل الكندي في الوقت المناسب
تُجري المشتريات الدفاعية في كندا وفقاً لسياسة “دفاع قوي وآمن وملتزم” (2017)، بالإضافة إلى الاستراتيجية الوطنية لخفر السواحل الكندي، وتسترشد كذلك بخطة الاستثمار الدفاعي الصادرة عام 2018 وذلك لضمان توفير المعدات والدعم المناسبين للقوات المسلحة الكندية وخفر السواحل في الوقت المناسب وبالجودة المطلوبة. وذلك من خلال الآليات التالية: تعزيز فهم الحكومة للحلول التي يقدمها قطاع الصناعة الدفاعية تشجيع تبادل المعلومات بين قطاع الصناعة والجهات الحكومية. تمكين القطاع الصناعي من استيعاب احتياجات القدرات الدفاعية والعوائد الاقتصادية المرغوبة من كندا منها. دعم اتخاذ قرارات استحواذ دقيقة وفي الوقت المناسب.
2. عقلنة وتحديث عمليات المشتريات الدفاعية وضمان تنسيق عملية صنع القرار
تعمل الحكومة على إيجاد طرق مبتكرة لتحسين المشتريات الدفاعية وعمليات اتخاذ القرارات من خلال اتباع نهج حديث وتعاوني مع قطاع الصناعة وذلك من خلال الآليات التالية:
1. إنشاء أمانة استراتيجية للمشتريات الدفاعية: في عام 2014، أنشأت الحكومة “أمانة استراتيجية المشتريات الدفاعية”، لتنسيق وتنفيذ النهج الجديد للمشتريات الدفاعية من خلال النظام الكندي المتعدد الوزرات المعنية.
2. تطبيق نهج مبسط لموافقات المشتريات الدفاعية: يهدف هذا النهج الذي فعل تجريبياً عام 2018 إلى مساعدة وزارة الدفاع الوطني (DND) وخفر السواحل الكندي (CCG) في الحصول على المشتريات التي يحتاجون إليها بسرعة أكبر، دون المساس بدقة الإشراف والعناية الواجبة.
3. مراجعة الصلاحيات المفوضة حالياً للدفاع الوطني: لدعم تبسيط عمليات المشتريات الدفاعية، من المتوقع زيادة سلطة المشتريات المفوضة لوزارة الدفاع الوطني إلى زيادة في الميزانية. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الزيادة إلى تحسين الكفاءة في شراء المعدات والخدمات الأقل قيمة والأقل تعقيداً.
4. مراجعة مبادئ تكلفة العقود وسياسة هامش الربح : فالمبادئ التوجيهية التي تحدد بموجبها قيمة العقود تحتاج إلى تحديث لمواكبة أنماط المشتريات المتطورة في كندا والخارج.
3. الاستفادة من المشتريات الدفاعية لخلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي في كندا
تعمل سياسة تعظيم الفائدة الصناعية والتكنولوجية على الاستفادة من المشتريات الدفاعية والأمنية لخلق وظائف تتطلب مهارات عالية وتعزيز النمو الاقتصادي في جميع قطاعات الاقتصاد الكندي. ومن أجل ذلك أصدرت كندا دليلاً يفصل أربعة معايير يمكن استخدامها لتقييم المقترحات والعروض المتعلقة بالمشتريات الدفاعية وإتاحتها لأصحاب المصلحة. والمعايير الأربعة هي:
1. مدى دعم تطوير قطاع الدفاع الكندي في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
2. مدى تعزيز مشاركة الشركات الكندية في سلاسل التوريد العالمية
3. مدى الاستثمار في البحث والتطوير في كندا
4. مدى إتاحة فرص تصدير للصناعات الدفاعية الكندية
الخاتمة
على الرغم من تنوع نماذج المشتريات الدفاعية والإصلاحات التي نُفذت في العديد من الدول خلال السنوات الأخيرة، إلا أن الأدبيات تتفق على أن معظم عمليات المشتريات الدفاعية، وبغض النظر عن النموذج المتّبع، لا تزال تعاني التحديات المعتادة، بدءاً من البيروقراطية، والتدخلات السياسية، ومروراً بتجاوز الميزانيات، وانتهاءً بتأخر الاستحواذ والتوريد.
ولا يبدو أن أياً من النماذج المطروحة قادر على تقديم حلول شاملة لجميع التحديات التي تواجه المشتريات الدفاعية في القرن الحادي والعشرين، وعلى رأسها: تزايد التعقيد، وارتفاع تكاليف أنظمة التسليح الرئيسية، وتعقيد سلاسل التوريد العالمية، إلى جانب التسارع الكبير في التطور التكنولوجي المتصل بالقطاع الدفاعي. لذا تقدم العديد من الدراسات الوازنة سلسلة من التوصيات المترابطة لتعزيز كفاءة المشتريات الدفاعية في ظل التعقيد:
1. جعل المشتريات الدفاعية أولوية وطنية.
2. تحسين عمليات جمع البيانات وتحليلها وقياس أداء المشتريات الدفاعية.
3. مركزية المشتريات الدفاعية.
4. زيادة ميزانيات المشتريات الدفاعية.
5. تسريع وتيرة المشتريات الدفاعية وتبسيطها.
6. التعلم من الدروس والتجارب المستفادة في مجال المشتريات الدفاعية.
7. الحد من تسييس المشتريات الدفاعية.
8. الحد من النفور من المخاطرة في مجال المشتريات الدفاعية.
9. الاستثمار في الموارد البشرية في مجال المشتريات الدفاعية.
10. تعزيز الشفافية والرقابة على المشتريات الدفاعية.
11. تطوير آليات تعاقد أكثر مرونة.
12. تحسين تمويل الموردين على مختلف المستويات.
13. تعزيز التعاون بين الحكومات وقطاع الصناعة لتوسيع القدرة الإنتاجية عند الحاجة.
استهدفت هذه الدراسة فهم تعقيد المشتريات الدفاعية من خلال دراسة الحالة الكندية، وذلك بتحليل هيكلها التنظيمي وأدوار الفاعلين المنوط لهم تنفيذ استراتيجيتها المتصلة بالاستحواذ والمشتريات الدفاعية، ومقارنة النموذج الكندي بالنماذج العالمية الأخرى. كما استهدفت الدراسة تعيين وتحليل أهداف الاستراتيجية الكندية. واستخلصت في نهايتها أهم المشكلات التي تعقد المشتريات الدفاعية وعرضت أهم التوصيات التي تقدمها الأدبيات الوازنة لتعزيز كفاءة المشتريات الدفاعية في ظل التعقيد.
الأستاذ الدكتور وائل صالح
(مستشار بمركز تريندز للبحوث والاستشارات(