يستند التخطيط المرتكز على القدرات (Capability-Based Planning – CBP) إلى مبدأ جوهري يتمثل في المواءمة بين ما هو متاح حالياً من قدرات وما هو مطلوب مستقبلاً، لمواجهة التهديدات والتحديات المحتملة. ولا يمكن لهذا النهج أن يحقق أهدافه ما لم يرتكز على أدوات عملية تتيح قياس القدرات بشكل موضوعي، سعياً للوقوف على الفجوات الحرجة بدرجة الدقة المطلوبة. وهنا تبرز عملية المراجعة العامة أو مراجعة القدرات باعتبارها الركيزة الأساسية لهذا النهج، فهي العملية التي تكشف الواقع كما هو، وتحوله إلى توصيات وأهداف قابلة للتنفيذ، بما يحول دون بقاء التخطيط في مستوى التطلعات النظرية أو التوجهات الاستراتيجية المجردة. تمثل المراجعات بشكل عام لب عملية تخطيط القدرات العسكرية والوطنية وتحقيق التكامل بين كافة الأطراف المعنية بالأمن الوطني.
تكمن أهمية المراجعة في أنها تضمن تحويل التوجيهات السياسية والاستراتيجيات العسكرية إلى قرارات عملية مدعومة بالأدلة الكمية والتحليلات الموضوعية. فهي تسمح بمراجعة شاملة للقدرات، بدءاً من الجاهزية العملياتية والتجهيزات العسكرية، وصولاً إلى استثمارات البحث والتطوير والتدريب، مما يساعد على تحويل المعطيات الراهنة إلى خطط تنفيذية متكاملة. وبذلك، تشكّل المراجعة العامة أداة رئيسية لتعزيز فعالية التخطيط المشترك، وضمان تكامل الموارد الوطنية، وتوجيه الاستثمارات نحو المجالات الأكثر أهمية.
يجدر ذكر أن المراجعة العامة لا تقتصر على المؤسسات العسكرية وحدها، بل تمتد في الدول الحديثة لتشمل مختلف أجهزة الدولة في إطار ما يُعرف بنهج التخطيط الحكومي الشامل (Whole-of-Government Planning). فهذا النهج ينظر إلى القدرات الوطنية باعتبارها منظومة مترابطة تشمل العناصر العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والبشرية. ومن خلال المراجعة الدورية لهذه القدرات، تستطيع الحكومات التأكد من أن سياساتها الوطنية واستراتيجياتها الدفاعية متناسقة مع بعضها، وأن الموارد المتاحة تُدار بكفاءة وشفافية لخدمة الأهداف الكبرى للدولة أو للتحالفات الدولية التي تنخرط فيها.
في التحالفات، تكمن القيمة المضافة لعملية المراجعة في قدرتها على تحقيق الشفافية عبر كشف الفجوات، وتعزيز عملية توزيع الأعباء والمسؤوليات بين مختلف المؤسسات أو بين الدول الأعضاء في التحالفات، إضافة إلى رفع مستوى الجاهزية الاستراتيجية لمواجهة التحديات وتحقيقاً للتكامل المنشود بين الأعضاء. وبذلك، تصبح المراجعة العامة أو مراجعة القدرات أكثر من مجرد أداة تقييمية، إنها عنصر تأسيسي يضمن أن التخطيط المرتكز على القدرات يتجسد في الواقع العملي، ويستمر في خدمة الأهداف الوطنية والجماعية على حد سواء.
وتيرة إجراء مراجعة القدرات
تُظهر التجارب الوطنية، في دول كالولايات المتحدة وبريطانيا، كيفية إدماج عملية المراجعة في صلب عملية التخطيط المرتكز على القدرات. ففي الولايات المتحدة، تتبنى وزارة الدفاع الأمريكية نظام التخطيط والبرمجة والميزانية والتنفيذ Planning, Programming, Budgeting, and Execution (PPBE) System وهو الإطار الرسمي الذي تستخدمه وزارة الدفاع الأمريكية لإدارة دورة الموارد الدفاعية من وضع الاستراتيجيات إلى تخصيص الميزانيات ثم التنفيذ والتقييم. كإطار أساسي، يتضمن مراجعات متكررة للموازنات والقدرات. كما يتم تنفيذ مراجعات محفظة القدرات (Capability Portfolio Reviews) بشكل سنوي أو نصف سنوي لتقييم أولويات الاستثمار وتجنب الازدواجية في البرامج. وإلى جانب ذلك، تُجرى مراجعات استراتيجية أوسع مثل المراجعة الدفاعية الرباعية Quadrennial Defense Review (QDR) سابقاً ومراجعة الدفاع الوطني National Defense Strategy – NDS Review حالياً كل أربع سنوات، لتقييم البيئة الاستراتيجية وربطها بالقدرات المطلوبة. تُعد هذه المراجعات أدوات مركزية لضمان أن الموارد المرصودة تُترجم إلى قدرات حقيقية قابلة للتوظيف العملياتي
أما في بريطانيا، فيتم اتباع نهج مشابه عبر اجراء مراجعات دورية شاملة مثل المراجعة الدفاعية والأمنية الاستراتيجية (Strategic Defence and Security Review -SDSR) والمراجعة المتكاملة Integrated Review (المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية هي مراجعة استراتيجية شاملة أطلقتها المملكة المتحدة عام 2021، استبدلت المراجعة الدفاعية والأمنية الاستراتيجية SDSR، ولكن بمدى أوسع وأكثر شمولاً بغرض دمج السياسات الدفاعية والأمنية مع التنمية والسياسة الخارجية، لتوفير رؤية وطنية موحدة تعكس تداخل هذه المجالات في مواجهة التحديات الحديثة مثل المنافسة الجيوسياسية، الأمن السيبراني، والتغير المناخي، تميز بأنها لا تقتصر على البعد العسكري فقط، بل تُعنى أيضاً بأبعاد القوة الوطنية الأخرى، وهو ما يجعلها أكثر اتساقاً مع مفهوم النهج الحكومي الشامل). عادة ما تحدد المراجعة المتكاملة أولويات الدفاع والأمن لعقد كامل. وتلعب المراجعة السنوية لخطة التجهـيز الدفاعية (Equipment Plan) التي يجريها المكتب الوطني للتدقيق (NAO) دوراً جوهرياً في التحقق من مدى قابليتها للتحمل المالي وكشف فجوات القدرات. وبهذا، توفر بريطانيا نموذجاً لدمج المراجعة المالية والفنية في آن واحد بما يعزز مصداقية التخطيط على المدى الطويل.
كما تعتبر مراجعة القدرات الدورية التي تنفذها كافة أفرع القوات المسلحة في أغلب الدول المتقدمة من الممارسات المعتادة لنفس الغايات التي تقدم ذكرها وأبرزها تحديد الفجوات في القدرات بجميع مكوناتها ثم التخطيط للتغلب عليها، فيما يعرف بالتخطيط للقدرات التخصصية لكل فرع. وبالتالي تكون مستويات المراجعة هي مراجعة القدرات ضمن الفرع، مراجعة القدرات العسكرية المشتركة ضمن المؤسسة العسكرية، مراجعة القدرات على المستوى الوطني ضمن النهج الحكومي الشامل، وأخيراً مراجعة القدرات ضمن التحالف.
مراجعة القدرات
بالنظر إلى أن المراجعة العامة أو مراجعة القدرات تتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف السياقات الوطنية والمؤسسية، فإن حلف الناتو يُعد من أبرز النماذج التطبيقية التي تُظهر كيف يمكن تحويل هذا المفهوم إلى عملية مؤسسية منتظمة. فقد طوّر الحلف عبر عملية التخطيط الدفاعي (NATO Defence Planning Process – NDPP) آلية منهجية لمراجعة القدرات، تهدف إلى ضمان أن تظل مساهمات الدول الأعضاء متوافقة مع المتطلبات الجماعية للحلف، وأن تُترجم الفجوات إلى أهداف واضحة تُوزع مسؤولياتها بين الدول.
تعتمد عملية التخطيط الدفاعي في حلف الناتو على دورة تمتد لأربع سنوات، تُجرى خلالها مراجعة شاملة كل عامين لضمان المراجعة الدورية والاستجابة لتغيرات البيئة الأمنية، ما يدعم فعالية التخطيط المرتكز على القدرات. بدايةً تشمل العملية جمع بيانات من الدول الأعضاء عبر الاستبيان الدفاعي (Defence Planning Questionnaire –DPQ)، وهو الأداة الرئيسية التي يستخدمها الناتو لجمع البيانات التفصيلية من الدول الأعضاء في إطار عملية التخطيط الدفاعي. والغاية من هذا الاستبيان هي تكوين صورة دقيقة وشاملة عن القدرات الوطنية المتاحة وخطط تطويرها المستقبلية، بحيث يمكن مقارنتها بالحد الأدنى لمتطلبات القدرات الجماعية (Minimum Capability Requirements – MCR) ، ومن هنا يمثل DPQ المدخل الأهم لمراحل مراجعة القدرات داخل الحلف. يشمل الاستبيان عدة جوانب محورية، إذ يطلب من الدول الأعضاء تقديم بيانات مفصلة عن هيكل قواتها الوطنية من حيث الحجم والتوزيع والأدوار العملياتية. كما يتناول جانب المعدات والتجهيزات العسكرية، بما في ذلك الأنظمة الرئيسية، مستوى جاهزيتها، وخطط الإحلال أو التحديث المرتبطة بها. ويغطي الاستبيان أيضاً الاستثمار الدفاعي عبر استعراض الخطط المالية المستقبلية والمشروعات الموجهة للتسلح والبحث والتطوير. ولا يقف الأمر عند الجانب المادي فحسب، بل يتطرق DPQ إلى عناصر التدريب والجاهزية، إذ يطلب معلومات عن مستوى استعداد القوات، البرامج التدريبية، والقدرة على الانتشار السريع. كذلك يشمل جانب الموارد البشرية، حيث يتم تقييم القوى العاملة العسكرية والمدنية، والتحديات المرتبطة بالتجنيد والحفاظ على الكوادر.
وبعد استلام البيانات، تُحلل نتائج الاستبيان في إطار اجتماعات ثنائية بين الحلف والدول المعنية. ومن خلال ما يعرف بـPeer Review يتم التحقق من موثوقية البيانات، تحديد الفجوات، وصياغة أهداف قدرات مستقبلية تتناسب مع التزامات الدول الأعضاء وإمكانياتها. تُحوّل الملاحظات الفردية إلى تقرير مراجعة القدرات (Capability Review Assessment) الذي يُعرض على مجلس شمال الأطلسي لاعتماده. هذا النموذج لا يمثل فقط تطبيقاً عملياً في إطار تحالف عسكري متعدد الأطراف، بل يوفر أيضاً مثالاً يُحتذى به للدول الساعية إلى بناء أنظمة مراجعة وطنية شاملة تدعم نهج التخطيط المرتكز على القدرات.
المشتملات، المدخلات، المخرجات
تشمل مشتملات عملية المراجعة عدداً من المراحل المترابطة التي تهدف إلى توفير تقييم موضوعي وشامل للقدرات الدفاعية. فهي تبدأ بتحليل التهديدات والتحديات الاستراتيجية الراهنة والمستقبلية، باعتبارها الإطار المرجعي الذي يحدد طبيعة القدرات المطلوبة على المدى القصير والمتوسط والبعيد. ومن ثم يجري تقدير القدرات الوطنية المتوافرة وقياسها بدقة في ضوء الحد الأدنى لمتطلبات القدرات (MCR)، وهو ما يسمح بتحديد مدى التوافق بين الإمكانات الحالية والمتطلبات المقررة. وعند هذه النقطة تُرصد الفجوات الحرجة وتحول إلى أهداف واضحة، إما على المستوى الوطني أو الجماعي، بما يعزز من تكامل الأداء بين الدول الأعضاء. بعد ذلك تتم صياغة هذه الأهداف ضمن إطار زمني محدد وقابل للتحقق لضمان واقعيتها وارتباطها بخطط التنفيذ الفعلي. وفي المرحلة الأخيرة تُجرى مراجعة دقيقة للموارد والجاهزية العملياتية من أجل التأكد من أن الأهداف المقترحة قابلة للتنفيذ العملي، الأمر الذي يضمن أن تظل المراجعة أداة فعّالة تربط بين التحليل الاستراتيجي ومتطلبات التطبيق الواقعي.
تستند عملية المراجعة إلى مجموعة من المدخلات الرئيسية التي تشكّل الأساس الذي تُبنى عليه التقديرات والتوصيات. في مقدمة هذه المدخلات يأتي التوجيه السياسي (Political Guidance) الذي يحدد الإطار العام والأولويات الكبرى للأمن الجماعي، ويعمل كمرجعية استراتيجية توجه بقية الخطوات. يلي ذلك الاستبيان الدفاعي (DPQ)، لجمع بيانات كمية ومفصلة من الدول الأعضاء حول قواتها، وتجهيزاتها، وخططها الاستثمارية المستقبلية، بما يتيح تقييم القدرات الوطنية بشكل موضوعي وواقعي. كما تُعقد الاجتماعات الثنائية (Bilateral Meetings) بين ممثلي الناتو والدول الأعضاء لمواءمة الأهداف المقترحة مع الواقع الوطني والإمكانات المتاحة. وإلى جانب ذلك، تسهم تقارير مكتب المساءلة الحكومية الأمريكي (Government Accountability Office – GAO) والمكتب الوطني للتدقيق البريطاني (National Audit Office – NAO) في ضمان الشفافية والمصداقية المالية عند تقييم خطط القدرات، خصوصاً تلك المتعلقة بخطط التجهـيز الدفاعية والميزانيات المخصصة. وأخيراً، تُعتمد تقديرات كلٍّ من القيادة الاستراتيجية للعمليات (Allied Command Operations – ACO) والقيادة الاستراتيجية للتحول (Allied Command Transformation – ACT) لتوفير رؤى تشغيلية آنية من جهة، واستشراف مستقبلي من جهة أخرى، وهو ما يضمن التوازن بين متطلبات العمليات الجارية والاحتياجات المستقبلية للتحالف.
أما فيما يتعلق بالمخرجات، فإن عملية المراجعة تسفر عن عدد من النتائج الجوهرية التي تترجم هذه المدخلات إلى قرارات وسياسات عملية. من أبرزها تقرير مراجعة القدرات الذي يلخص مستوى التقدّم ويحدد الفجوات الحرجة في القدرات. كما يُصدر تقرير التقدّم الوطني (Progress Assessment Report) الذي يقيس مدى التزام كل دولة عضو بالأهداف الموزعة عليها، ويكشف جوانب القصور أو التأخير في التنفيذ. وتُرفع هذه النتائج إلى صناع القرار، لاعتماد السياسات وإعادة توزيع الأهداف أو تعديل الأولويات. وفي ضوء ذلك، تُعد صياغة خطط تنفيذية جديدة استجابة مباشرة لهذه القرارات، بحيث تدخل في الدورة التالية من التخطيط بما يضمن استمرارية التطوير وتحقيق التراكمية في بناء القدرات.
الخلاصة
إن المراجعة العامة/مراجعة القدرات، تمثل حجر الزاوية في التخطيط المرتكز على القدرات. فهي لا تقتصر على المؤسسات العسكرية بل تمتد إلى الحكومات الحديثة في إطار التخطيط الحكومي الشامل، حيث تُستخدم لتنسيق جميع عناصر القوة الوطنية. توضح النماذج من الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو أن المراجعة الدورية ضرورية لإغلاق فجوات القدرات، وضمان عدالة تقاسم الأعباء، وتحويل الاستراتيجيات الكبرى إلى قدرات عملية قابلة للتنفيذ. وبذلك تصبح المراجعة ليس فقط آلية للتقييم بل أداةً لتوجيه المستقبل وضمان الجاهزية الدفاعية والاستراتيجية بشكل مستدام.
لواء م/ خالد علي السميطي