على الرغم من أن مشروع دولة داعش قد انهار على الأرض، بفقدان التنظيم للأراضي التي سيطر عليها والتي كانت تفوق مساحة بريطانيا وأكبر من مساحة بلجيكا بثمانية أضعاف ومن قطر بثلاثين ضعفاً، إضافة إلى مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي على أيدي القوات الأمريكية في أكتوبر 2019، فإن السؤال حول مستقبل الإرهاب في المنطقة يطرح نفسه بقوة، لأن انهيار داعش تنظيمياً ومقتل قائده، لا يعني نهاية خطره، بل ربما يكون ذلك مقدمة لخطر أكبر وأكثر اتساعاً.
حيث تشير تجربة تنظيم القاعدة إلى إن انهيار التنظيم في 2001 لم يؤد إلى موته أو تراجع خطره، بل إنه انقسم إلى العديد من الفروع التي انتشرت حول العالم ومارست، ولا تزال، الإرهاب والترويع والعنف، مثل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، وتنظيم القاعدة في إفريقيا، وغيرها. ورغم مقتل زعيم التنظيم أسامة بن لادن، فإنه عيًن زعيماً آخر هو أيمن الظواهري، وواصل نشاطاته.
ومن هنا فإن إحدى النتائج المتوقعة لانهيار داعش ظهور العديد من فروعه المحلية في دول عديدة، تتبنى الفكر ذاته وربما تكون أكثر خطراً من التنظيم الأم نفسه، لأن العالم، في هذه الحالة، سوف يكون مضطراً إلى التعامل مع عدد كبير من التنظيمات الإرهابية الفرعية بعد أن كان يتعامل مع تنظيم واحد لديه السيطرة على أتباعه.
ومن خلال تتبع تطور التنظيمات الإرهابية في المنطقة خلال العقود الماضية يتضح أمر أساسي هو: أن انهيار أحد هذه التنظيمات يقود إلى ظهور تنظيم آخر أكثر تشدداً منه فيما يمكن أن يُطلق عليه “دورة الإرهاب”. فقد جاء ظهور تنظيم القاعدة بعد انهيار تنظيم الجهاد في مصر معبراً عن توجهات أكثر خطراً وشدة من تلك التي كان يمثلها تنظيم الجهاد، وخرج تنظيم داعش من رحم القاعدة متبنياً لأفكار أكثر تشدداً منها، وهذا يعني أن انهيار داعش ربما يؤدي على ظهور تنظيم آخر أكثر خطورة وتشدداً خلال الفترة القادمة.
وإذا كان تنظيم داعش قد فقد الأراضي التي كان يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، فإن له حضور في العديد من الأماكن الأخرى مثل أفغانستان وبعض دول آسيا الوسطى واليمن، ودول الساحل الإفريقي وليبيا وغيرها، خاصة مع الهشاشة الأمنية التي تعاني منها هذه الدول وعدم قدرتها على السيطرة على الأوضاع فيها، إضافة إلى توفر أسباب الصراعات الأهلية داخلها، سواء كانت دينية أو عرقية أو طائفية أو سياسية أو غيرها.ولا شك في أن تنظيم داعش يجد في مناطق التوتر والصراع بيئات مثالية للنشاط والعمل، كما هو الحال في اليمن وليبيا وغيرهما.
وعلى الرغم من اندحار داعش في العراق وسوريا، فإن عودته إلى هذين البلدين من جديد تبقى قائمه في ظل عدة اعتبارات: الاعتبار الأول هو احتمال انسحاب القوات الأمريكية من العراق بعد قرار البرلمان العراقي الذي دعا الحكومة العراقية إلى إنهاء وجود هذه القوات،والاعتبار الثاني استمرار الاضطرابات والتوترات الأمنية والسياسية والطائفية في العراق، والاعتبار الثالث هو استخدام بعض القوى الإقليمية والدولية لورقة “داعش” في إدارة صراعاتها على الساحة السورية وعلى رأسها تركيا.
إضافة لما سبق، فإن انهيار تنظيم داعش قد أدى إلى ظهور مشكلة أمنية خطيرة تشمل العالم كله تقريباً هي مشكلة “العائدون من سوريا والعراق”، أسوة بمشكلة “العائدون من أفغانستان” بعد نهاية فترة “الجهاد” ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي. وفي هذا السياق تشير التقديرات الصادرة عن المؤسسات المتخصصة إلى أن هناك أكثر من 40 ألف شخص من أكثر من 110 بلاد حول العالم، سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى داعش بعد إعلان “دولة الخلافة” في عام 2014، وإن نحو5600 شخص من هؤلاء عادوا إلى بلادهم بعد انهيار داعش.
وهؤلاء الذين عادوا إلى بلادهم، أو الذين يتوقع أن يعودوا، يمثلون مشكلة أمنية خطيرة من خلال احتمال قيامهم بعمليات إرهابية فردية انطلاقاً من إيمانهم بفكر داعش، فيما يعرف بظاهرة “الذئاب المنفردة”. وتكمن خطورة هذه الظاهرة في إن “الذئب المنفرد” يكون من الصعب تعقبه أو مراقبة نشاطاته، لأنه يكون منخرطاً في المجتمع بشكل طبيعي، وربما لا تظهر عليه أي أعراض تطرف أو عنف، وفجأة ينفذ عمليته ومن ثم يوقع أكبر قدر ممكن من الضرر.
وعلى الرغم من الضعف الذي لحق بتنظيم داعش بعد انهيار مشروع دولته ومقتل زعيمه، فإن هذا الضعف لن يصب في مصلحة الاستقرار في المنطقة والعالم، وإنما في مصلحة تنظيم إرهابي آخر منافس هو تنظيم القاعدة؛ حيث يُتوقع أن يزداد هذه التنظيم الأخيرة قوة خلال الفترة القادمة، بالنظر إلى اعتبارين: الأول هو احتمال انضمام الكثير من عناصر داعش إليه بعد انهيار التنظيم الداعشي، خاصة أن داعش كانت انشقاقاً عن القاعدة بالأساس. والاعتبار الثاني هو أن انهيار مشروع “دولة” داعش، يعزز من رؤية تنظيم القاعدة الذي رفض التسرع في إعلان دولة على أساس أن الوقت غير مناسب.
وفي هذا السياق أظهر مؤشر الإرهاب العالمي 2019 الصادر عن “معهد الاقتصاد والسلام” في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الهجمات التي نفذتها حركة طالبان خلال عام 2018، كانت أكثر شدة وخطراً من أي هجمات شنتها تنظيمات إرهابية أخرى على مستوى العالم، بما فيها تنظيم “داعش”.
وعلى الرغم من الدماء الغزيرة التي أسالها تنظيم داعش والخطر الذي مثله منذ ظهوره على الساحة، فإنه ربما يكون أقل خطراً من تنظيم القاعدة، في المجمل العام، بالنظر إلى اختلاف نوعية المنتمين إلى التنظيمين، حيث يشير خبراء إلى أن وثائق داعش تؤكد أن 5% فقط من المجندين الذين وفدوا إليه من أكثر من 100 دولة حول العالم، لديهم معرفة مُتعمقة بالإسلام، في حين وصفت هذه الوثائق 70% منهم بأنهم لا يملكون سوى فهم “أساسي” للدين، وهذا على عكس المنتمين إلى تنظيم القاعدة الذين يتسمون بالتمسك القوي بأيدولوجية التنظيم والانتماء إليه استناداً إلى إيمان عميق بتفسيرات محددة للإسلام. ولذلك فإن النمو المتوقع لتنظيم القاعدة مستفيداً من انهيار داعش، ينطوي على خطورة كبيرة على الأمن في العالم كله.