في 1 مارس 2018، قدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال خطاب «حالة الأمة» ستة نماذج جديدة من الأسلحة، وذلك رداً على تطوير واشنطن لأنظمة الدفاع الصاروخي الخاصة بها. وركز بوتين بشكل خاص على المشروع المسمى «بوريفيستنيك 9 إم 730»، وهو صاروخ مجنح وصف حينها بأنه ذو «مدى غير محدود»، و«2 إم 39 بوسيدون» (2M39 Poseidon)، وهو طوربيد مسيّر يبلغ مداه 10,000 كم. وكان كلا السلاحين يعتمدان على الدفع النووي ويمكن لكليهما حمل رؤوس نووية.

استعرض بوتين آنذاك شريط فيديو يعرض الصاروخ بوريفيستنيك محلقاً فوق المحيطات، متجنباً أنظمة الدفاع الجوي ويظهر الفيديو الصاروخ يضرب هدفاً في جزيرة هاواي الأمريكية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بوريفيستنيك تعني بالروسية «عصفور العاصفة»، وهو طائر بحري معروف برحلاته الطويلة والمنخفضة بحثاً عن فريسته، وهو ما يفسر سبب تسمية الصاروخ الجديد به، إذ يحلق على ارتفاعات منخفضة. وكشف رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، بأن صاروخ «بوريفيستنيك» المجنح خضع لرحلة تجريبية لمسافة 14 ألف كيلومتر في 21 أكتوبر.
ثم كشف الرئيس بوتين، في أواخر أكتوبر، أن بلاده اختبرت بنجاح طوربيداً فائق القدرة يعمل بالطاقة النووية من طراز «بوسيدون»، وأوضح بوتين أن الطوربيد حقق «نجاحاً باهراً»، مشيراً إلى أن قوته فاقت صاروخ سارمات العابر للقارات، وأنه «لا وسيلة لاعتراضه». وتجدر الإشارة إلى أن التطورين السابقين يعنيان أن روسيا طورت جيلاً جديداً من الصواريخ والطوربيدات الاستراتيجية، التي تدفع باتجاه اختلال التوازن الاستراتيجي النووي العالمي لغير صالح الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي قد يكون له تبعات على الاستقرار الاستراتيجي الدولي.
بدايات فاشلة للمحرك النووي
تعود فكرة إنتاج محرك يعمل بالدفاع النووي إلى حقبة الحرب الباردة، وتحديداً عندما سعت الولايات المتحدة إلى تطوير تكنولوجيا المحركات النفاثة النووية بين عامي 1957 و1964 من خلال مشروع «بلوتو»، وهو برنامج يهدف إلى تطوير صاروخ كروز نووي فائق السرعة قادر على ضرب أهداف عميقة داخل الأراضي السوفييتية. وكان يعرف باسم «الصاروخ الأسرع من الصوت ذو الارتفاع المنخفض».
وتم إيقاف هذا المشروع، نظراً لخطورته بسبب مفاعله غير المحمي بجدار عازل متين، مما أدى إلى حدوث تسرب إشعاعي كبير. وحدّد ثيودور ميركل، مدير مشروع «بلوتو»، هذه النقاط في تقرير صدر عام 1959 بعنوان «نظام الدفع النووي بالمحرك النفاث». فقد تمثّلت أول التحديات في حجم المفاعل النووي ومدى متانته. فمعظم المفاعلات النووية التجارية ضخمة وثقيلة ومحاطة بأطنان من الخرسانة، أما هذا المفاعل فكان يجب أن يكون صغيراً وخفيفاً بما يكفي للطيران، لكنه في الوقت نفسه كان بحاجة إلى قدر كبير من المتانة لتحمّل الإجهاد الناتج عن التغيرات الشديدة في الضغط ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى الضغوط الناتجة عن تسارع الصاروخ أو تغييره لمساره.
وتتوافق العديد من ملاحظات ميركل مع ما كتبه العلماء السوفييت العاملون في وزارة الدفاع السوفييتية قبل ذلك بعامين. على سبيل المثال، تشير كلا الدراستين إلى أن هناك محدودية شديدة في المواد اللازمة لبناء جدار المفاعل بسبب درجات الحرارة القصوى المتوقعة. كما ألمح ميركل والعلماء السوفييت أن المحرك النفاث العامل بالطاقة النووية سيحتاج إلى وسيلة دفع إضافية للإقلاع، مما يضيف تعقيدات أخرى إلى إنتاج مثل هذا الصاروخ. ومن جهة أخرى، تتسم المفاعلات النووية بأنها ثقيلة ومرتفعة الحرارة، وهما صفتان غير ملائمتين للصاروخ من الناحية الديناميكية الهوائية، كما أن المحركات النووية معقدة، مما قد يجعلها أكثر عرضة للأعطال مقارنة بالمحركات النفاثة التقليدية. فعلى سبيل المثال، وللتعامل مع درجات الحرارة التشغيلية العالية جداً، قد يتطلب تبريد الصاروخ أثناء الطيران زيادة حجم المفاعل لاستيعاب فتحات تسمح بتدفق الهواء. وإلى جانب كونه ضخماً وصعب التعامل، فإن مثل هذا المفاعل «المكشوف جزئياً» سيُطلق أيضاً جزيئات مشعة عالية الخطورة أثناء الطيران. وعلى الرغم من هذه التعقيدات الهائلة، فإن الروس استطاعوا التعامل مع مثل هذه التحديات، وهو ما يمثل تفوقاً تكنولوجياً بكل المعايير.
ولم يكن الإعلان عن الصاروخ الجديد «بوريفيستنيك 9 أم 730»، في أكتوبر 2025، مفاجئاً تماماً للولايات المتحدة، فقد كشف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، النقاب عن هذا الصاروخ، في مارس 2018، قائلاً إن الصاروخ سيكون «منخفض الطيران»، مع مدى غير محدود تقريباً، ومسار طيران غير متوقع، و»لا يقهر» بالنسبة للدفاعات الحالية والمستقبلية. كما أنه، في 11 يناير 2021، نشر «المركز الوطني للاستخبارات الجوية والفضائية» التابع للقوات الجوية الأمريكية تقريراً معلناً له عن الصواريخ الباليستية والمجنحة أشار لأول مرة إلى صاروخ بوريفيستنيك، والذي يطلق عليه الناتو اسم «سكاي فال» (Skyfall). وكشفت واشنطن عن وجود ثلاثة مواقع اختبار روسية مرتبطة ببرنامج بوريفيستنيك، وهي كابوستين يار، ونينوكسا وبانكوفو. تم تحديد المشروع لأول مرة من قبل أجهزة الاستخبارات الأمريكية في موقع كابوستين يار عام 2016، ولذلك أُعطت التسمية الأولية له «كي واي – 30» (KY-30). ووفقاً لتقييمات واشنطن، فإنه من المرجح أن البرنامج كان قيد التنفيذ منذ 2010.
ولم يكن إنتاج مثل هذا الصاروخ أمراً سهلاً، بل لاقت جهود إنتاجه انتكاسة واضحة في أغسطس 2019، حينما وقع انفجار شديد في منشأة عسكرية روسية في منطقة أرخانجيلسك، وفقاً لشركة الطاقة النووية الروسية روساتوم، وتسبب الحادث في مقتل خمسة موظفين خلال اختبار «نظام الدفع السائل الذي يحتوي على نظائر مشعة». وعلى الرغم من هذه الانتكاسة، فإن الرئيس الروسي كشف في أكتوبر 2025 عن نجاح اختبار الصاروخ المجنح الذي يعمل بالطاقة النووية «بوريفيستنيك»، مشدداً على أنه منتج فريد من نوعه لا يمتلكه أحد آخر في العالم.
وقد يكون أحد العوامل التي دفعت الولايات المتحدة إلى تجنب إنتاج صواريخ مماثلة إلى الخبرة السابقة لمشروع بلوتو، والذي واجه تعقيدات فنية واسعة، فضلاً عن تقديرها لتواضع نتائج الاختبارات الروسية، إذ إنه بحلول يناير 2019، كشفت الاستخبارات الأمريكية ما مجموعه 13 اختباراً لنماذج أولية لصاروخ بوريفيستنيك، انتهى 11 منها بالتحطم فور مغادرة الصاروخ لمنصة الإطلاق. وفي جميع هذه المحاولات، بدا أن المشكلة التي كان من الصعب تجاوزها هو قدرة الصاروخ على الاستمرار في الطيران أثناء الانتقال من محرك التشغيل الأولي إلى تشغيل المفاعل باعتباره المحرك الرئيسي للصاروخ. كما أن الرحلتان اللتان حققتا نجاحاً نسبياً انتهتا بعد بضع دقائق ومسافة قصيرة.
ومن جهة أخرى، توصلت الاستخبارات الأمريكية إلى استنتاجات خاطئة مفادها أنه تم إعداد غالبية اختبارات الصواريخ بناءً على طلب بوتين، وخلافاً لاقتراحات المهندسين من شركة «نوفاتور» (Novator) ومركز الأبحاث المسؤول عن تطوير الدفع النووي، أي أن المتخصصين الروس كانوا متشككين في فرص نجاح المشروع، وأن بوتين يمارس ضغوطاً عليهم لمواصلته.
وذكر تقرير صادر عام 2020 عن المركز الوطني للاستخبارات الجوية والفضائية التابع للقوات الجوية الأمريكية أنه إذا نجحت روسيا في تشغيل صاروخ بوريفيستنيك، فسوف يمنح ذلك موسكو «سلاحاً فريداً بقدرة عابرة للقارات»، وهو ما يشير إلى أن التقييمات الروسية للصاروخ الجديد، والتي جاءت على لسان المسؤولين الروس، ليست مبالغاً فيها، على الرغم من تهوين بعض الخبراء من فاعلية الصاروخ الجديد.

الطوربيد النووي المسيّر
أعلنت وزارة الدفاع الروسية، في 1 نوفمبر 2025، إطلاق غواصتها النووية «خاباروفسك»، وهي «مخصصة لتنفيذ مهام لصالح البحرية باستخدام أنظمة روبوتية من أنواع مختلفة تعمل تحت سطح البحر»، وفقاً لما ذكرته وزارة الدفاع. ومن المتوقع أن تقوم هذه الغواصة بحمل الطوربيد النووي التجريبي «بوسيدون»، والذي كشف عنه الرئيس الروسي، في 29 أكتوبر. وأكد الأدميرال فياتشيسلاف بوبوف، الذي قاد أسطول الشمال الروسي في 1997 – 2001، أن إنزال غواصة «خاباروفسك» الذرية يعني بدء تشغيل الطراد الجديد «بوسيدون»، والذي تمت تسميته نسبة إلى إله البحر والعواصف والزلازل لدى اليونانيون القدماء.
وتشير التحليلات الغربية إلى أنه في حالة صدق القدرات المعلنة للطوربيد الروسي، وبدء روسيا في الإنتاج التسلسلي له، فإنه سوف يعيد تشكيل الردع النووي، وسيصبح أحد أكثر الأسلحة الروسية خطورة، إذ إن بوسيدون يعمل بالطاقة النووية ومزود بأسلحة نووية، وهو طوربيد عملاق يمكنه ضرب المدن الساحلية وتدميرها بشكل كارثي. ومع ذلك، تؤكد روسيا أنه يمكن استخدامه أيضاً كسلاح نووي تكتيكي ضد الأهداف عالية القيمة مثل حاملات الطائرات، إذ تصفه روسيا بأنه نظام متعدد المهام، على الرغم من أن فائدته تتمثل في تأكيد الردع النووي من خلال امتلاك القدرة على توجيه ضربة نووية ثانية.
وتذهب التقارير الغربية إلى أن السرعة المتوقعة للسلاح تبلغ حوالي 70 عقدة، وهو سريع بما يكفي لجعله غير قابل للاعتراض بشكل واقعي بواسطة الطوربيدات الحالية، في حين أن عمقه التشغيلي، قد يصل إلى 1000 متر (3300 قدم)، الأمر الذي يجعل من الصعب استهدافه، وهو ما يعني أنه سيتعين على الدول الغربية تطوير أسلحة جديدة لاعتراضه، بما يتطلبه ذلك من وقت طويل واستثمارات ضخمة.
ومن المميزات الأخرى للطوربيد المسيّر أن مفاعله النووي يمنحه مدى غير محدود. وهو ما يعطيه مستويات جديدة من المرونة التشغيلية من حيث مواقع الإطلاق والأهداف، على الرغم من أن دوره سيقتصر على تدمير الأهداف البحرية، أو المدن الساحلية، مثل نيويورك ولوس أنجلوس.
أهداف الأسلحة الجديدة
تسعى روسيا من الكشف عن أسلحتها الجديدة، بوريفيستنيك وبوسيدون، إلى إرسال عدد من الرسائل إلى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1. التغلب على قبة ترامب الذهبية: أكد الجنرال غيراسيموف أنه خلال الرحلة التجريبية لصاروخ «بوريفيستنيك»، تم تنفيذ جميع المناورات الرأسية والأفقية المحددة، «وبالتالي فقد أظهر قدرات عالية على تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخية والجوية».
لذا، فإن الهدف من صاروخ بوريفيستنيك هو منح الصاروخ مدى عابراً للقارات، إذ أن مداه يتراوح نظرياً بين 10,000 و20,000 كيلومتر. وهذا من شأنه أن يسمح بوضع الصاروخ في أي مكان في روسيا مع الحفاظ على قدرته على الوصول إلى أهداف داخل الولايات المتحدة، كما أن الارتفاع النظري لصاروخ بوريفيستنيك يتراوح بين 50 و100 متر طوال رحلته تقريباً. ويتطلب تعظيم مدى أي صاروخ مجنح يعمل بالطاقة التقليدية الطيران على ارتفاع متوسط لتحسين استهلاك الوقود، غير أن هذا الأمر سوف يترتب عليه زيادة المدى الذي يمكن أن يكتشفه رادار الدفاع الجوي المعادي. ولا ينطبق هذا الأمر على بوريفيستنيك، والذي يمتلك القدرة على التحليق على ارتفاع منخفض جداً دون أن يعاني من مشكلة نفاد الوقود، وكذلك القدرة على استخدام مسارات ملتوية لتجنب مواقع الدفاع الجوي المعروفة.
ويجب الأخذ في الاعتبار هنا أن معظم أنظمة الدفاع النووي تهدف إلى اعتراض الأسلحة القادمة في طبقة الستراتوسفير، إذ تمتلك الولايات المتحدة شبكة من أنظمة الصواريخ الأرضية في ألاسكا وكاليفورنيا، موجهة نحو الفضاء. هذه الأنظمة، على الرغم من أنها بعيدة عن الكمال، تجعل من الصعب على ترسانة روسيا من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من الوصول إلى أهدافها في حالة اندلاع حرب نووية. وهنا يأتي دور صاروخ بوريفيستنيك. فوفقاً للجنرال غيراسيموف، قطع الصاروخ مسافة 8700 ميل في أول اختبار له، في رحلة استغرقت أكثر من 15 ساعة. والأهم من ذلك أنه يمكنه الطيران على ارتفاع 100 متر فقط فوق سطح الأرض، مما يتيح له التسلل دون أن يتم رصده من قبل دفاعات الغرب.
2. تأكيد التفوق «النووي» الروسي: تخطط الولايات المتحدة لنشر أولى منظوماتها من الصواريخ الفرط صوتية من طراز «دارك إيجل» بحلول ديسمبر 2025، وذلك بعد حوالي ثماني سنوات تقريباً من كشف روسيا عن منظوماتها الصاروخية الفرط صوتية، وبعد بدء روسيا في إنتاج جيل ثانٍ من الصواريخ الفرط صوتية، مثل أوريشنيك. ولم تكد الولايات المتحدة تعلن عن امتلاكها لصواريخها الفرط صوتية، حتى كشفت موسكو عن أسلحة جديدة يكاد يكون من المستحيل اعتراضها، فقد أكد الرئيس بوتين أن بوسيدون فريد من نوعه من حيث سرعته وعمق حركته، إذ أكد أنه: «لا يوجد شيء مثله في العالم. ومن غير المرجح أن يظهر منافسون له في أي وقت قريب، ولا توجد طرق اعتراض حالية». ولعل ما يؤكد مصداقية الموقف الروسي أن الولايات المتحدة لا تمتلك أي برامج حالية لإنتاج صواريخ تعمل بمحركات نووية. وبالتالي، تفرض روسيا تحدياً على الولايات المتحدة، سواء لحاجتها إلى إنتاج منظومات عسكرية مماثلة، أو تطوير نظم دفاعية قابلة على اعتراض بوريفيستنيك وبوسيدون، وهو أمر سوف يحتاج إلى تكلفة مرتفعة للغاية.
وفي الإطار السابق، يمكن فهم تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، والذي أكد أنه «على عكس بوريفستنيك، يمكن اعتبار بوسيدون سلاح يوم القيامة بالمعنى الكامل»، فيما أشار الرئيس بوتين إلى أن القدرة التدميرية لبوسيدون «أشد بكثير من صاروخ «سارمات» النووي الفرط صوتي العابر للقارات». وفي حقيقة الأمر، يمكن لـ «بوسيدون» أن يُوصل رأساً نووياً إلى أي مدينة ساحلية في العالم، بينما يظل، على خلاف الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بمنأى عن الاعتراض من قِبل أي نظام دفاعي موجود حالياً.
3. ضبط التصعيد العسكري في أوكرانيا: وظفت روسيا تفوقها في مجال إنتاج الصواريخ الجديدة، مثل الصواريخ الفرط صوتية، لتهديد الغرب، وردعه عن تصعيد الصراع معها من خلال البوابة الأوكرانية. وضح ذلك على سبيل المثال في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، والذي كان يلوح في أواخر حكمه بإمداد أوكرانيا بصواريخ توماهوك، ووقتها جاء الرد الروسي في نوفمبر 2024، باستخدام أحدث صاروخ باليستي روسي متوسط المدى من طراز «أوريشنيك»، برأس حربي فرط صوتي غير نووي، ضد مجمع عسكري صناعي داخل مدينة دنيبرو الأوكرانية، ثم عقب بوتين على الضربة السابقة بالتأكيد أنها جاءت رداً على هجمات أوكرانية بصواريخ أمريكية وبريطانية بعيدة المدى، مثل «أتاكمس» و«ستورم شادو»، على منشآت عسكرية داخل منطقتي بريانسك وكورسك، كما توعد الكرملين بالرد المناسب على نقل صواريخ «توماهوك» إلى أوكرانيا، وهو ما دفع إدارة بايدن عن التراجع عن هذه الخطوة.
وبالمثل، جاء الإعلان عن بوريفيستنيك وبوسيدون بالتزامن مع تفكير إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، في إمداد أوكرانيا بصواريخ توماهوك، فقد هدفت هذه الأسلحة الجديدة إلى تنبيه الغرب إلى مخاطر التصعيد مع روسيا عبر إمداد أوكرانيا بهذه النوعية من الصواريخ. وحققت روسيا ما تريد على ما يبدو، إذ أكد الرئيس ترامب، في 3 نوفمبر، أنه لا يفكر حالياً في صفقة تتيح لأوكرانيا الحصول على صواريخ توماهوك بعيدة المدى لاستخدامها ضد روسيا. وإذا ما حافظ الموقف الأمريكي على سياسته هذه، تكون موسكو قد تمكنت من إقناع واشنطن بتجنب إمداد أوكرانيا بصواريخ توماهوك، والتي قد تؤدي إلى إشعال التوتر ليس فقط بين موسكو وكييف، ولكن بين الأولى وواشنطن كذلك.
فقد غيرت روسيا عقيدتها النووية أثناء الحرب الروسية – الأوكرانية، وتحديداً في نوفمبر 2024، إذ خفضت موسكو العتبة المُعلنة لاستخدام الأسلحة النووية، محتفظة بحق الرد النووي على أي ضربة تقليدية تُشكّل «تهديداً جدياً» لسيادة أو وحدة أراضي روسيا أو بيلاروسيا. كما حذرت روسيا من أن الهجوم الذي تشنه دولة غير نووية بدعم من دولة تمتلك أسلحة نووية سيُعامل على أنه هجوم مشترك من كلا الدولتين، في حين أن الهجوم الذي ينفذه أحد أعضاء تحالف ما سيُعتبر عدواناً من الكتلة بأكملها. ويعني ما سبق أن أي دعم أمريكي لأوكرانيا لاستهداف مواقع استراتيجية في روسيا بصواريخ توماهوك سوف يعطي الحق لروسيا في استخدام السلاح النووي ضد كلا البلدين. ونظراً للتفوق الروسي في مجال الصواريخ الفرط صوتية والصواريخ ذات المحركات النووية، فإن التهديدات الروسية تكتسب وزناً أكبر في حسابات الغرب، خاصة الولايات المتحدة.
4. بدء حقبة جديدة من سباق التسلح: أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجيهات، في مطلع نوفمبر 2025، بإجراء اختبارات على الأسلحة النووية «لضمان التكافؤ النووي مع روسيا والصين»، مبرراً ذلك على أساس أن الدول الأخرى تنفّذ اختبارات نووية سرية، في إشارة إلى روسيا والصين، وهي إشارة غير دقيقة من جانب ترامب، نظراً لأن الدولتين لم يجريا أي تجارب نووية. لذا، أثارت تصريحات ترامب حفيظة روسيا، إذ أكد بوتين التزام بلاده الدائم بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، غير أنه، في المقابل، أكد أنه إذا أجرت الولايات المتحدة أي تجارب نووية فسنتخذ إجراءات مماثلة.
وأثار الموقف الأمريكي لبساً وغموضاً، إذ إن أياً من روسيا أو الصين لا تقومان بأي اختبارات نووية، ولكن تقومان بإجراء تجارب وتطوير وسائل إيصالها كالصواريخ، ولذلك، ربما كان الرئيس الأمريكي يقصد إجراء اختبار للصواريخ الحاملة للرؤوس النووية. ولعل ما يؤكد هذا إعلان الجيش الأمريكي بعد تصريحات ترامب عن إجراء اختبار لصاروخ باليستي عابر للقارات قادر على حمل رأس نووي من طراز «مينتمان 3»، وهو الصاروخ الذي دخل الخدمة في عام 1970.
وعلى الرغم من هذه الخطوات والتصريحات الأمريكية السابقة، فإن واشنطن تبدو غير مستعدة لخوض سباق تسلح جديد، أو على الأقل، تسعى لتجنب هذا الخيار، وهو ما يتضح من طرح الرئيس ترامب، بعد التصريح السابق، فكرة التعاون مع روسيا والصين على خطة لنزع السلاح النووي، وبالتالي، تبدو رسالة ترامب دعوة ضمنية لتهدئة الصراع وفتح حوار محتمل.
الخاتمة
تمكنت روسيا من خلال تطوير صاروخ بوريفيستنيك المجنح والطوربيد المسيّر بوسيدون، واللذين يعملان بالمحرك النووي، من تأكيد قدرتها على التغلب على كافة العقبات الفنية، وتطوير أجيال جديدة من الصواريخ بالاعتماد على تكنولوجيا لم تصل إليها أي دولة في العالم من قبل، لتواصل بذلك ريادتها العسكرية، والتي بدأت في عام 2017، حينما سبقت واشنطن والغرب في إنتاج أول صاروخ فرط صوتي.
ولا يكون من قبيل المبالغة القول إن روسيا من خلال بوريفيستنيك وبوسيدون قد تمكنت من الإخلال بالتوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، عبر امتلاك أنواع جديدة من وسائل الإيصال للأسلحة النووية، والتي سوف تحتاج واشنطن إلى مجابهتها عبر الانخراط في مشاريع، سواء لإنتاج أنظمة مماثلة، أو نظم مضادة تستهدف تحجيم تهديدات مثل هذه الصواريخ.
ومن جهة أخرى، فإن الكرملين تمكن من استخدام المنظومتين العسكريتين الجديدتين لتأكيد تفوقه العسكري في مواجهة واشنطن، ووضع سقف على ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة من أسلحة لأوكرانيا، ومن ثم ضمان أن أهداف موسكو العسكرية في أوكرانيا، سوف تحققها إما حرباً، وإما سلماً. وعلى الرغم من أن الأسلحة الروسية الجديدة قد تنذر بسباق تسلح دولي، فإن ما يحجم من هذه الاحتمالية، حتى الآن، هو ميل ترامب لتجنب الدخول في سباق التسلح النووي.
د. شادي عبدالوهاب أستاذ مشارك في كلية الدفاع الوطني










