باتت العقوبات الاقتصادية خلال العقود الأخيرة تشكل الأداة الأكثر تفضيلاً بالنسبة لصناع القرار لإدارة الصراعات الدولية، أو للرد على التحديات الجيوسياسية الكبرى، وتشمل هذه العقوبات حزماً واسعة من الأدوات الفرعية التي تستهدف التأثير على قدرات الخصم. وتعد الولايات المتحدة من أكثر الدول التي تعمد إلى توظيف العقوبات الاقتصادية في علاقتها مع خصومها، بيد أن قدرة روسيا على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الهائلة التي فرضت عليها من قبل واشنطن وحلفائها الغربيين، منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، طرح العديد من التساؤلات بشأن مدى فاعلية هذه الأداة ومستقبلها في الحروب الحديثة.

ماهية العقوبات الاقتصادية
يمكن تعريف العقوبات الاقتصادية بأنها «وقف العلاقات التجارية والمالية الاعتيادية لأغراض السياسة الخارجية والأمنية»، ويمكن أن تكون هذه العقوبات شاملة، من خلال حظر النشاط التجاري الكامل لدولة ما، على غرار الحظر التجاري الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا، كما يمكن أن تكون هذه العقوبات مستهدفة، أو التي يطلق عليها «العقوبات الذكية»، حيث يتم من خلالها منع المعاملات مع بعض الشركات أو المجموعات أو الأفراد المحددين. وتتخذ العقوبات الاقتصادية أشكالاً مختلفة، تتضمن حظر السفر وتجميد الأصول، وحظر التسليح، وتقييد رأس المال، وخفض المساعدات الخارجية، وغيرها من القيود التجارية الصارمة.
وعادةً ما تستهدف العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الدول على بعضها بعضاً تحقيق جملة من الأهداف الرئيسة، بما في ذلك إجبار الدول الأخرى على تغيير سلوكها، أو معاقبتها على بعض الممارسات والسياسات، أو احتواء تهديدات للأمن الدولي ومكافحة الإرهاب والمخدرات، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وحل النزاعات وتعزيز الأمن السيبراني. ورغم أنها تعد أحد أشكال التدخل، بيد أن هذه العقوبات تعتبر خياراً أقل تكلفةً ومخاطرةً بين الدبلوماسية والحرب المباشرة، وتعتبرها بعض الأدبيات بمثابة الأداة الأكثر حسماً عندما يكون العمل لعسكري غير ممكن. كما يمكن فرض هذه العقوبات أثناء تقييم الدول لإجراءات عقابية أكثر صرامة، على غرار العقوبات الشاملة التي فرضها مجلس الأمن الدولي بعد أربعة أيام فقط من غزو صدام حسين للكويت، في أغسطس 1990، إذ لم يصدر المجلس قراراً باستخدام القوة العسكرية إلا بعد شهر من بداية الغزو.
وباعتبار مجلس الأمن هو الهيئة المنوطة بإدارة الأزمات في منظمة الأمم المتحدة، فإنه يمكن للمجلس فرض عقوبات اقتصادية على بعض الدول أو المجموعات من غير الدول، ويتم اقرار هذه العقوبات بأغلبية أعضاء المجلس الخمسة عشر، وبشرط عدم استخدام حق الفيتو من أي دولة من الأعضاء الدائمين بالمجلس، ويعد تجميد الأصول وحظر السفر وحظر الأسلحة أكثر أنواع العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن. ورغم أن المجلس كان قد فرض عقوبات اقتصادية على دولتين فقط، هما روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حالياً) وجنوب إفريقيا، قبل عام 1990، لكنه عمد إلى فرض عقوبات اقتصادية أكثر من ثلاثين مرة، منذ نهاية الحرب الباردة، ارتكزت غالبيتها على أطراف في صراعات داخلية، مثل الصومال وليبيريا.
من ناحية أخرى، تعد الولايات المتحدة من أكثر الدول استخداماً للعقوبات الاقتصادية، وقد تنشأ سياسة العقوبات الأمريكية إما عن طريق السلطة التنفيذية وإما التشريعية، حيث يطلق الرئيس الأمريكي عادةً أمراً تنفيذياً يعلن من خلاله حالة طوارئ وطنية استجابة لتهديد خارجي، وهو ما يمنح الرئيس صلاحيات خاصة للتعامل مع هذا التهديد، بما في ذلك فرض عقوبات اقتصادية. ويدير مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، أكثر من 33 برنامجاً للعقوبات الاقتصادية، كما تلعب بعض الوزارات الأخرى دوراً محورياً في هذا الملف، بما في ذلك وزارات الخارجية والعدل والتجارة، إذ يمكن لوزارة الخارجية أن تصنف جماعة ما كمنظمة إرهابية أو تصنف دولة كراعية للإرهاب، الأمر الذي يترتب عليه عقوبات اقتصادية أخرى. كذا، يمكن للكونجرس الأمريكي أن يقر تشريعات تفرض عقوبات جديدة، أو تعدل عقوبات قائمة. ومنذ عام 2024، فرضت الولايات المتحدة أنظمة عقوبات اقتصادية شاملة ضد كوبا وكوريا الشمالية وإيران وروسيا، فضلاً عن 12 برنامجاً آخر يستهدف الأفراد والكيانات، وشكلت الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لتجميد أكثر من 330 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي عام 2022 خطوة غير مسبوقة نظراً لحجمها.
من ناحية، أخرى، يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية، تعرف عادةً باسم «التدابير الاقتصادية»، كجزء من السياسات الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد. وفي ظل افتقار بروكسل لقوة عسكرية مشتركة، ينظر القادة الأوروبيون للعقوبات باعتبارها أداة جوهرية في سياساته الخارجية، ويشترط أن تحظى سياسات العقوبات بإجماع الدول الأعضاء في مجلس الاتحاد الأوروبي. وقد فرض الاتحاد الأوروبي، منذ نشأته، عقوبات اقتصادية أكثر من ثلاثين مرة، بخلاف العقوبات المفروضة من قبل منظمة الأمم المتحدة، ما يجعلها ثاني أكبر جهة، غير الأمم المتحدة، تصدر عقوبات اقتصادية بعد الولايات المتحدة.
تطور استخدام العقوبات الاقتصادية
تعود الممارسات الأولى لاستخدام العقوبات الاقتصادية إلى القرن التاسع عشر، على غرار الحصار القاري الذي فرضه نابليون بونابرت على الجزر البريطانية، بيد أن الاستخدام المتزايد للعقوبات الاقتصادية كأداة لأدارة الحروب ارتبط بالأساس بالحرب العالمية الأولى، عندما حاولت بريطانيا وفرنسا عزل ألمانيا وحلفائها عن الاقتصاد العالمي، وحرمان اقتصاداتهم من المواد والغذاء. في المقابل، استخدمت ألمانيا غواصاتها لتعطيل حركة الشحن عبر المحيط الأطلسي، لذا شكلت الحرب العالمية الأولى تحولاً جذرياً في المبدأ السائد آنذاك، والمتمثل في فصل الحروب عن التجارة والاقتصاد.
كذا، تم التأكيد على مبدأ العقوبات الاقتصادية كأداة لإدارة الحروب في المادة (16)، من ميثاق عصبة الأمم، والتي نصت على فرض عقوبات جماعية على أي دولة عضو تشن حرباً عدوانية على دولة أخرى. ورغم الانتقادات التي وجهت لعصبة الأمم بأنها تفتقر للوسائل اللازمة لفرض القوة، بيد أن مؤسسي المنظمة كانوا مقتنعين بأنهم زودوا المنظمة بنوع جديد وحاسم من أدوات القمع، تمثل في العقوبات الاقتصادية، والتي وصفها الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، في عام 1919، بأنها أقوى تأثيراً من الحرب العسكرية ذاتها. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كان هناك ثمة اعتقاد سائد مفاده أن العقوبات الاقتصادية باتت تشكل أداة حاسمة للحروب، حيث يمكنها إرباك الخصوم دون تحمل تكاليف المواجهات العسكرية، رغم التداعيات السلبية لهذه الأداة على المدنيين، وهو ما يؤكده الدبلوماسي الإنجليزي، هارولد نيكلسون، والذي أقر بالعواقب التي تمخضت عن الحصار الاقتصادي المفروض على المجر، خلال حكومة «بيلا كون» الشيوعية، ومع ذلك أشار نيكلسون إلى ضرورة استخدام هذه الأداة لتحقيق المصالح دون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية، معتبراً أن هذه الأداة، التي كانت محظورةً سابقاً، أضحت تشكل أداة محورية للحرب.
وتشير الأدبيات إلى أن العقوبات الاقتصادية بدأت ترتبط في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بإدارة الحروب، في إطار الحديث عن مفهوم «الحرب الشاملة»، حيث أراد قادة دول الحلفاء أن يجعلوا عصبة الأمم الناشئة قادرة على وقف أي حرب مستقبلية ناشئة، من خلال قوة مكافئة لقوة الحرب ذاتها، لكنها أقل تكلفة من الأداة العسكرية، وقد وجدوا هذه القوة في العقوبات الاقتصادية، لا سيما أساليب الحصار الاقتصادي الجديدة التي طورت خلال الحرب العالمية الأولى، والذي يمكن من خلالها قطع أي دولة عن أي منفذ للاقتصاد العالمي، وهو ما يفضي إلى نتائج تتشابه مع ارتدادات الحرب، لكن بوسائل وتكلفة مختلفة.
وتعكس التجارب التاريخية لاستخدام العقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات الحرب الشاملة تأثيرات متباينة إزاء الدول المختلفة، فبينما كان التأثير الرادع لهذه العقوبات كافياً لإثناء بعض الدول الصغيرة عن القيام باعتداءات على دول أخرى، بيد أن هذا التأثير كان محدوداً للغاية إزاء الدول والإمبراطوريات الكبرى. فعلى سبيل المثال، اضطرت يوغوسلافيا إلى وقف تدخلها في شمال ألبانيا، في عام 1921، بعد تهديد هيئة الأمم بفرض حصار اقتصادي عليها، والأمر ذاته تكرر في عام 2025، حيث نجحت تهديدات الهيئة في تسوية صراع آخر في منطقة البلقان بين اليونان وبلغاريا.
في المقابل، أثبتت هذه التجارب أن خضوع الدول والإمبراطوريات الكبرى لتأثير العقوبات الاقتصادية أقل احتمالية، إذ لم تستجب ألمانيا وإيطاليا واليابان بالتراجع عن الأعمال العدائية، بل على العكس عمدت هذه الدول خلال حقبة الحرب العالمية الثانية إلى الدفع نحو التوسع الإقليمي، باعتباره الأداة الحاسمة لتأمين السيطرة على الموارد التي هددت العقوبات بحرمانهم منها، كالنفط والحديد والحبوب وغيرها. كما عكست هذه التجارب أن الدول التي تعتمد على تصدير السلع الأساسية تعد أكثر عرضة لتأثيرات هذه العقوبات مقارنة بالاقتصاديات الصناعية. لكن، حتى في هذه الحالة يمكن ملاحظة استثناءات مهمة، على غرار القطاع الزراعي في كوبا والذي صمد أمام الحصار المفروض عليه.
طبيعة العقوبات
خلال القرن الحالي، تم التوسع في استخدام العقوبات الاقتصادية لمعالجة مجموعة متنوعة من القضايا، منها تجنب اندلاع مواجهات عسكرية، وإرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومعالجة القضايا البيئية وغيرها من القضايا، حتى باتت هذه العقوبات أداة روتينية تستخدمها الدول والمنظمات الدولية في محاولة لتغيير سلوك الدول المستهدفة.
وكان تقرير أممي صادر عام 2015 قد أشار إلى أن ثلث سكان العالم باتوا يعيشون في دول تخضع لأحد أشكال العقوبات الاقتصادية، وهو ما يعزى إلى التغيرات التي بدأت تطرأ على طبيعة العقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات الحرب الشاملة خلال القرن الحالي، حيث أضحت هذه العقوبات تمثل شكلاً خفيفاً من أشكال الإكراه، وباتت القوى الدولية الكبرى تنظر لفكرة فرض عقوبات اقتصادية محدودة، كحظر استيراد سلع محددة أو تجميد بعض الأصول، كتصعيد محدود نسبياً، وهو ما يفسر التضخم المفرط في العقوبات الاقتصادية المفروضة حالياً على كثير من الدول، حيث تندرج العديد من هذه العقوبات ضمن فئة العقوبات البسيطة ذات التأثير المحدود، وفي الوقت ذاته أقل فاعلية في إحداث تغيير سلوكي.
وفي هذا السياق، ارتفع عدد العقوبات وشدتها بشكل حاد منذ عام 2022، حيث فرضت القوى الغربية أكثر من 23 ألف عقوبة اقتصادية جديدة على روسيا، بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، مقابل حوالي 2695 عقوبة كانت مفروضة على موسكو قبل عام 2022، ما يجعل روسيا الدولة الأكثر خضوعاً للعقوبات في التاريخ الحديث.

بالتالي، باتت العقوبات الاقتصادية في إدارة الحروب الحديثة ذات تأثيرات كبيرة وواسعة النطاق، في ظل نظام دولي تتشابك فيه سلاسل التوريد المعقدة بين كثير من الدول، ناهيك عن الأنظمة المالية العالمية المتشابكة في نسيج العلاقات المصرفية المحلية، والتي تجعل من الصعوبة وضع حدود فاصلة بين الاقتصادات المحلية والاقتصاد الدولي. ومقارنة بالعقوبات الاقتصادية التاريخية، أصبحت العقوبات الحديثة أكثر اتساعاً، تمتد من الطاقة والمواد الخام إلى الخدمات المصرفية والتكنولوجيا والشحن، وصولاً إلى الأفراد والمنصات المالية، حتى أضحت العقوبات الاقتصادية سمة مميزة للجغرافيا السياسية في القرن الحالي، وتستخدم هذه العقوبات الحديثة العديد من الآليات، يتمثل أبرزها فيما يلي:
١- العقوبات المالية: والتي تشمل تجميد الأصول، ومنع المعاملات مع بعض البنوك، وتقييد الوصول إلى الدولار، ومنع الوصول إلى نظام «سويفت» وغيرها من أنظمة الدفع الأخرى، على غرار حظر الاتحاد الأوروبي لبنك (VTB) الروسي.
٢- العقوبات التجارية: وتنطوي على تقييد عمليات تصدير التكنولوجيا المتقدمة، على غرار أشباه الموصلات ورقائق الذكاء الاصطناعي، ومعدات الحوسبة الكمومية، فضلاً عن حظر استيراد المواد الاستراتيجية، على غرار قيام الصين بتقييد عملية تصدير بعض المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة.
٣- العقوبات القطاعية: والتي تستهدف صناعات بأكلمها في بعض القطاعات، كالطاقة أو الدافع أو التكنولوجيا، داخل الدول المستهدفة بهذه العقوبات.
٤- العقوبات الثانوية: وهي العقوبات التي تستهدف أطرافاً ثالثةً، بما في ذلك الحلفاء أحياناً، ممن يتعاملون مع دول أو كيانات خاضعة للعقوبات، على غرار العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على الشركات أو البنوك غير الأمريكية التي تتعامل مع المؤسسات الإيرانية الخاضعة للعقوبات.
٥- عقوبات فردية: وهي العقوبات التي تستهدف شخصيات سياسية أو عسكرية بارزة، وكذا أفراد عائلاتهم، من خلال حظر السفر أو تجميد الأصول.
بالتالي، بينما تم اعتبار العقوبات الاقتصادية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بمثابة شكل من أشكال الحرب، بل يفوق تأثيرها نتائج الحرب العسكرية المباشرة، ذهبت الأدبيات في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية للنظر إلى العقوبات الاقتصادية باعتبارها بديلاً مثالياً للأداة العسكرية، في المقابل، سادت قناعة راسخة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مفادها أن العقوبات الاقتصادية تشكل أداة حاسمة من أدوات الحرب الشاملة، وترسخ هذا المنظور خلال العقد الأخير، في ظل التوسع المفرط في استخدام هذه الأداة من قبل القوى الكبرى.
فاعلية العقوبات الاقتصادية
تتباين الأدبيات بشأن مدى فاعلية العقوبات الاقتصادية كأداة مهمة في الحروب الحديثة، فبينما يرى البعض أن العقوبات الاقتصادية، ذات الأهداف المحدودة نسبياً عادةً ما تكون أكثر احتماليةً للنجاح مقارنةً بتلك التي تنطوي على تطلعات سياسية كبرى وبعيدة المدى، لكن هذه العقوبات يمكن أن تعرض النفوذ المالي للخطر بالنسبة للدول التي تقوم بفرضها، لا سيما الولايات المتحدة، وذلك حال استخدام هذه الأداة بشكل مفرط. وتشير الأدبيات إلى أن ثمة اختلافات كبيرة بشأن ديناميكيات كل حالة من الحالات التي تم خلالها فرض عقوبات اقتصادية، وأن العقوبات التي قد تكون فعالة في سياق معين يمكن أن تفشل في سياق آخر، في ظل تأثرها بمحددات عديدة.
وقد أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى إثارة الجدل بشأن مدى فاعلية العقوبات الاقتصادية كأداة لإدارة الحروب الحديثة، فرغم العقوبات الغربية الهائلة التي فرضها الغرب على موسكو منذ بداية الحرب، بيد أنها لم تؤد إلى إنهاء الأزمة ولم تغير موقف موسكو، بل على العكس، تمكنت الأخيرة من الالتفاف على كثير من هذه العقوبات أو التكيف معها، لا سيما فيما يتعلق بصادراتها من الطاقة، كما أن الاقتصاد الروسي شهد نمواً بنسبة 3.6 % في عام 2023، بما يعني معدلات نمو تجاوزت نظيرتها في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما عمدت موسكو لزيادة مستويات الإنفاق العسكرية بنحو ثلاثة أضعاف ما قبل الحرب، ورغم التحذيرات التي تشير إليها التقارير الدولية بشأن مستقبل الاقتصاد الروسي، لكن الواقع يعكس استمرار قدرة موسكو على الالتفاف والتكيف مع العقوبات الغربية الصارمة.
فرغم أن العقوبات الصارمة التي فرضها الغرب على روسيا منذ بداية الحرب الروسية – الأوكرانية أدت إلى تأثيرات كبيرة على الاقتصاد الروسي خلال عام 2022، بيد أن موسكو عمدت إلى تبني استراتيجية شاملة لدعم الاقتصاد، وهو ما انعكس بشكل ملحوظ في قدرة الاقتصاد الروسي على التكيف مع العقوبات، وذلك من خلال إعادة توجيه الطاقة وتحويل صادراتها من النفط والغاز شرقاً، لا سيما إلى الصين والهند، كما توسعت موسكو في الاعتماد على أسطول الظل لنقل النفط والالتفاف على العقوبات الغربية، فضلاً عن تطويرها أنظمة دفع بديلة عن نظام سويفت، منها إعادة الاعتماد على اتفاقيات المقايضة أو استخدام العملات المحلية بدلاً من الدولار في التجارة المتبادلة مع بعض الدول، بالإضافة لذلك ركزت روسيا على استبدال التكنولوجيا والسلع الغربية ببدائل محلية أو من خلال استيرادها من دول حليفة، ورغم تأثير ذلك على الجودة في كثير من الأحيان، بيد أن الأداء بدأ يتحسن بشكل تدريجي. ورغم إشارة بعض التقارير الدولية إلى أن القيود الاقتصادية المفروضة على روسيا ستكون له تداعيات سلبية أكبر على الاقتصاد الروسي خلال الفترة المقبلة، بيد أن هذه العقوبات غير المسبوقة لم تؤد إلى انهيار الاقتصاد الروسي حتى الآن، لكنها أدت إلى تأثيرات واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي، لا سيما من خلال زيادة معدلات التضخم بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، فضلاً عن تأثيرها على كثير من القطاعات الصناعية لدى كثير من القوى الأوروبية، مثل ألمانيا. كذا أفضت هذه العقوبات إلى تعزيز التحالفات الروسية مع قوى أخرى، أبرزها الصين وكوريا الشمالية. كما أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن كثيراً من القوى الدولية، لا سيما الصين، عمدت إلى الاستفادة من تجربة العقوبات الغربية ضد روسيا، بغية اتخاذ خطوات استباقية تحد من تأثير هذه العقوبات، حال تعرضت هذه الدول مستقبلاً لعقوبات مماثلة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
وقد عكست العقوبات الاقتصادية الغربية الصارمة ضد روسيا، لعزلها عن النظام المالي العالمي، من خلال حرمان البنوك الروسية الرئيسية من الوصول لنظام سويفت وتجميد أصول البنك المركزي الروسي، إعادة إفراز لتجربة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عصبة الأمم على إيطاليا بعد تدخل الأخيرة في إثيوبيا، والتي لم تنجح في تغيير موقف روما، بل على العكس، أدت إلى اتخاذ الأخيرة لتدابير اقتصادية لتقليل تأثير أي عقوبات اقتصادية مستقبلية، كما دفعت روما لمزيد من التوسع العسكري، فضلاً عن الخطة الوطنية التي طبقتها ألمانيا، في ثلاثينات القرن الماضي، لتحقيق المرونة في مواجهة الحصار الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على المواد الخام المستوردة، الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن ما إذا كانت العقوبات الاقتصادية الهائلة المفروضة على موسكو يمكن أن تدفع الأخيرة نحو مزيد من التصعيد الروسي، لا سيما بعد إعلانها عن حالة التأهب النووي علناً، بما يمثل تهديداً ضمنياً بإمكانية تصعيد نووي محتمل، حتى وإن كانت فرصه محدودة.
من ناحية أخرى، تعكس الجدلية القائمة بشأن مدى فاعلية العقوبات الاقتصادية تساؤلات أخرى تتعلق بحدود تأثير هذه العقوبات، وما إذا كان بإمكانها أن يكون لها ارتدادات معاكسة، خاصةً وأن عواقب هذه العقوبات يمكن أن تكون غير متوقعة، فعلى سبيل المثال، عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة الألمنيوم «روسال» الروسية، المملوكة لأوليغ ديريباسكا، فإنها لم تتوقع التداعيات السلبية التي ستتمخض عن هذا القرار على اقتصاد حلفائها الأوروبيين.
وتشير التقارير الغربية إلى أنه بينما كانت ثلث العقوبات الاقتصادية التي شهدها القرن العشرين ناجحة جزئياً على الأقل، فإن نسبة النجاح انخفضت إلى 20 % فقط خلال القرن الحالي، رغم تزايد استخدام أداة العقوبات الاقتصادية بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، كما تشير التجارب المختلفة إلى أن التهديد بالعقوبات يعد أقوى ردعاً من فرضها بعد اندلاع الحرب.
مستقبل العقوبات الاقتصادية
أشار «نيكولاس مولدر» في كتابه المعنون بـ«السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة»، إلى أن التجارب التاريخية للعقوبات الاقتصادية تظهر أنها ربما تكون أكثر نجاحاً كوسيلة لتقويض القوة المالية للخصوم، لكنها في المقابل ترسخ العداء بين الدول بدلاً من تسوية الخلافات. وبالتالي فالاستخدام الفعال للعقوبات يعتمد على وجود التزام موثوق بإلغائها، عند تلبية المطالب. وتشير بعض الأدبيات إلى أن هناك عدة معايير رئيسية يمكن من خلالها تقييم مدى فاعلية العقوبات يتمثل أبرزها في مدى ارتفاع تكلفتها على الدولة المستهدفة بها، فضلاً عن مدى «ذكاء» هذه العقوبات المفروضة، بحيث يتم تصميمه لتؤثر بشكل كبير على الأشخاص المعنيين في الدولة المستهدفة، يضاف لذلك معيار أخر يرتبط بقدرة هذه العقوبات في الحد من احتمالية انخراط الدولة التي تفرضها وتلك المستهدفة بها في مواجهات عسكرية مستقبلية.
وخلال العقد الأخير، ازداد نطاق العقوبات الاقتصادية وتعقيدها بشكل كبير، متأثرةً في ذلك بالنظام العالمي الجديد الذي بات في طور التشكيل، والذي يميل إلى التعددية القطبية المجزأة. وفي هذا السياق، هناك جملة من المحددات التي يمكن أن تؤثر على مستقبل العقوبات الاقتصادية كأداة للحروب الحديثة والمستقبلية، يتمثل أبرزها فيما يلي:
١- التنافس الدولي في إطار التعددية القطبية المرنة: يشهد النظام الدولي الراهن تحولاً مطرداً باتجاه تعددية قطبية مرنة، وفي إطار هذا النظام الدولي الجديد، والذي يتسم بدرجة متزايدة من التنافسية، تتجه القوى الدولية المختلفة لاستخدام أدواتها الاقتصادية بشكل متزايد لتحقيق مصالحها، الأمر الذي أفضى إلى بلورة أنظمة عقوبات متنافسة ومتبادلة.
٢- تعاظم ثورة التجارة الإلكترونية: يتوقع أن يؤدي صعود التجارة الرقمية العابرة للحدود، والتمويل اللامركزي، وانتشار العملات المشفرة، إلى التأثير على فاعلية العقوبات الاقتصادية، وصعوبة تنفيذها بشكل كامل، إذ أصبح بإمكان الكيانات التي يفرض عليها عقوبات اقتصادية الالتفاف على هذه العقوبات من خلال الاعتماد على العملات المشفرة في العمليات التجارية، دون الحاجة للتعامل مع النظام المصرفي التقليدي.
٣- التوسع في العقوبات الثانوية: تشير التقارير الدولية إلى أن التوسع المطرد في العقوبات الاقتصادية المتبادلة بين الدول سيؤدي على الأرجح إلى انزلاق الدول المحايدة إلى النزاعات، بحيث تصبح مضطرة للاختيار بين الأطراف المتنافسة، فعلى سبيل المثال، تواجه مصافي التكرير الهندية التي تعالج النفط الروسي، وكذا البنوك الصينية التي تسهل عمليات التجارة الإيرانية، هذه المعضلة.
٤- الاستثناءات الاستراتيجية: تشير العقوبات الاقتصادية الراهنة إلى أن الدول التي تقوم بفرض هذه العقوبات تعمل بشكل متزايد على خلق استثناءات على هذه العقوبات بما يخدم مصالحها الخاصة، فعلى سبيل المثال، رغم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على فنزويلا، لكنها سمحت ببعض المعاملات النفطية لكراكاس، بما يضمن استقرار أسعار الأسواق، والأمر ذاته عمدت إليه دول الاتحاد الأوروبي، والتي قامت بإعفاء بعض أنابيب الغاز الروسية لحماية أمن الطاقة.
ومن هذا المنطلق، يبدو أن مستقبل العقوبات الاقتصادية كأداة للحروب المستقبلية يعتمد على تحول معايير التقييم لمدى فاعلية هذه العقوبات، من خلال التحول من الإكراه إلى التقييد، فعلى سبيل المثال، نجحت العقوبات الغربية على إيران في تقييد قدرات طهران على تمويل ودعم وكلائها الإقليميين، كما تمكنت العقوبات الغربية على روسيا من التأثير على القدرات الصناعية الروسية، وكذا تقييد قدراتها العسكرية والتمويلية، حتى وإن فشلت هذه العقوبات في إكراه الدول المستهدفة على تغيير سياساتها، وهو ما يعكس مدى نجاح العقوبات كأداة رئيسة للحرب الاقتصادية، لكنها ربما تفشل كأحد الأدوات الدبلوماسية.
وفي الختام، تشير التقديرات الغربية إلى أن نموذج العقوبات الشاملة، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، آخذ في التآكل، في ظل التحولات التي بدأت تطرأ على النظام العالمي الجديد، ورغم ذلك تبقي العقوبات الاقتصادية بمثابة أداة رئيسية من أدوات الحرب الشاملة الحديثة، خاصةً وأن الهدف الأساسي من توظيف هذه العقوبات لم يكن استخدامها الفعلي، بل كان الهدف أن تكون هذه الأداة أحد أشكال الردع.
عدنان موسى
مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة










