USCYBERCOM

الدور الناشئ للجيوش في السيادة الرقمية

في‭ ‬العصر‭ ‬الرقمي،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مفاهيم‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬حبيسة‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬التقليدية،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬لتشمل‭ ‬فضاءات‭ ‬جديدة،‭ ‬أبرزها‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭. ‬وهذا‭ ‬الامتداد‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬السيادة‭ ‬يعكس‭ ‬التحول‭ ‬الجذري‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬والنظم‭ ‬الدفاعية‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬البيانات،‭ ‬وتأمين‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬الرقمية،‭ ‬وإدارة‭ ‬العمليات‭ ‬السيبرانية‭ ‬عناصر‭ ‬أساسية‭ ‬للاستقلال‭ ‬الوطني‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬باتت‭ ‬الجيوش‭ ‬الحديثة‭ ‬مطالبة‭ ‬بتوسيع‭ ‬أدوارها‭ ‬التقليدية‭ ‬لتشمل‭ ‬مهام‭ ‬الدفاع‭ ‬السيبراني،‭ ‬وصد‭ ‬الهجمات‭ ‬الرقمية،‭ ‬وضمان‭ ‬استقلالية‭ ‬القرار‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬التحديات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬البيئة‭ ‬الرقمية‭ ‬العالمية‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تهدف‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬مفهوم‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬عسكري،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الجيوش‭ ‬في‭ ‬بنائها‭ ‬وتعزيزها‭. ‬كما‭ ‬تُبرز‭ ‬الدراسة‭ ‬التحديات‭ ‬المعقدة‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الجيوش‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية،‭ ‬وتستشرف‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬أهم‭ ‬التوجهات‭ ‬المستقبلية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الحاسم‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭.‬

السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬كبيئة‭ ‬عملياتية‭ ‬عسكرية

تُعرف‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬بأنها‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬بنيتها‭ ‬التحتية‭ ‬الرقمية‭ ‬وبياناتها‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التبعية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الخارجية‭. ‬يشمل‭ ‬ذلك‭ ‬السيادة‭ ‬على‭ ‬البيانات،‭ ‬البرمجيات،‭ ‬والقرارات‭ ‬السيبرانية‭. ‬ويُعد‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬امتداداً‭ ‬حديثاً‭ ‬للسيادة‭ ‬التقليدية،‭ ‬حيث‭ ‬تؤكد‭ ‬الأدبيات‭ ‬الوثائق‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للجيوش‭ ‬الكبرى‭ ‬مثل‭ ‬الكتاب‭ ‬الأبيض‭ ‬للدفاع‭ (‬2008،‭ ‬2013‭) ‬والمراجعة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للدفاع‭ ‬والأمن‭ ‬الوطني‭ (‬2017‭) ‬الفرنسيين،‭ ‬أن‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬أمر‭ ‬حاسم‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬استقلالية‭ ‬القرار،‭ ‬وأن‭ ‬إدراج‭ ‬البُعد‭ ‬الرقمي‭ ‬ضمن‭ ‬مفاهيم‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬والسيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬قد‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬الحتميات‭. ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬مجرد‭ ‬ميدان‭ ‬تقني،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬فضاء‭ ‬سيادي‭ ‬بامتياز،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬البيانات‭ ‬والمعطيات‭ ‬الرقمية‭ ‬تعادل‭ ‬في‭ ‬أهميتها‭ ‬الموارد‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التقليدية‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة‭ ‬والمياه،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بيير‭ ‬بيلانجيه،‭ ‬الرئيس‭ ‬التنفيذي‭ ‬لمجموعة‭ ‬Skyrock‭ ‬وعضو‭ ‬اللجنة‭ ‬العلمية‭ ‬للمركز‭ ‬العالي‭ ‬لدراسات‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭ (‬CHECy‭) ‬بفرنسا‭. ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أعرب‭ ‬مبكراً‭ ‬عن‭ ‬قلقه‭ ‬من‭ ‬تسليم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬سيادتَها‭ ‬الرقمية‭ ‬دون‭ ‬نقاش‭ ‬ودون‭ ‬قتال‭ ‬نتيجة‭ ‬تأخرها‭ ‬في‭ ‬الاستجابات‭ ‬السياسية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬لحماية‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬تقرير‭ ‬البرلمان‭ ‬الفرنسي‭ (‬2024‭) ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬امتلاك‭ ‬الدولة‭ ‬للوسائل‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بحماية‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬دون‭ ‬تدخل‭ ‬خارجي‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬هي‭ ‬بيئة‭ ‬عملياتية‭ ‬متعددة‭ ‬الطبقات‭: ‬المادية‭ (‬الخوادم‭ ‬والشبكات‭)‬،‭ ‬المنطقية‭ (‬البرمجيات‭ ‬والأنظمة‭)‬،‭ ‬والإدراكية‭ (‬المعلومات‭ ‬والعلاقات‭ ‬بينها‭). ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬تلغي‭ ‬القيود‭ ‬التقليدية‭ ‬كالزمن‭ ‬والمسافة،‭ ‬وتجعل‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات‭ ‬عرضة‭ ‬للهجمات‭ ‬حتى‭ ‬ضمن‭ ‬حدودهم‭ ‬الوطنية‭.‬

وقد‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬تطور‭ ‬نظريات‭ ‬عسكرية‭ ‬جديدة‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭ ‬ساحة‭ ‬معركة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها‭ ‬وقائمة‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬أو‭ ‬الاستقلالية‭ ‬الرقمية،‭ ‬والتي‭ ‬تتطلب‭ ‬قدرات‭ ‬دفاعية‭ ‬وهجومية‭ ‬متخصصة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬تبنّت‭ ‬الجيوش‭ ‬مفاهيم‭ ‬‮«‬الدفاع‭ ‬السيبراني‮»‬‭ ‬و«الردع‭ ‬السيبراني‮»‬‭ ‬و«الأمن‭ ‬السيبراني‮»‬،‭ ‬وأُنشئت‭ ‬قيادات‭ ‬متخصصة‭ ‬مثل‭ ‬القيادة‭ ‬السيبرانية‭ ‬الأمريكية‭ (‬USCYBERCOM‭) ‬والقيادة‭ ‬السيبرانية‭ ‬الفرنسية‭ (‬COMCYBER‭).‬

والمفارقة،‭ ‬أنه‭ ‬لتحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية،‭ ‬تحتاج‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬الأساسية،‭ ‬لضمان‭ ‬أمان‭ ‬نظام‭ ‬مبني‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬من‭ ‬أجزاء‭ ‬قد‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الموثوقية‭. ‬ويتطلب‭ ‬هذا،‭ ‬أولاً،‭ ‬امتلاك‭ ‬أدوات‭ ‬تشفير‭ ‬سيادية‭ ‬لضمان‭ ‬سلامة‭ ‬البيانات‭ ‬وسريتها،‭ ‬ثم‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬الشبكات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬امتلاك‭ ‬مجسات‭ ‬مراقبة‭ ‬موثوقة‭ ‬بالكامل‭ ‬لضمان‭ ‬توفر‭ ‬البيانات،‭ ‬وأخيراً،‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬خوارزميات‭ ‬وطنية‭ ‬لمعالجة‭ ‬البيانات‭. ‬ولا‭ ‬سيادة‭ ‬رقمية‭ ‬إلا‭ ‬بتوفر‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬الجوهرية‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭. ‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تستقل‭ ‬بالكامل‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالأجهزة‭ ‬والبرمجيات،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬أفضل‭ ‬درجة‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬الاستقلالية‭ ‬والسيادة‭ ‬وذلك‭ ‬بتنويع‭ ‬الموردين‭ ‬والمصنعين،‭ ‬واستخدام‭ ‬عدة‭ ‬شبكات‭ ‬محمية‭ ‬ومنفصلة‭ ‬فعلياً‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬جميع‭ ‬الأجهزة‭ ‬أو‭ ‬البرمجيات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وطنية‭ ‬المصدر‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬المنتجات‭ ‬الرقمية‭ ‬الوطنية‭ ‬موثوقة‭ ‬تماماً،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬قامت‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬بتطويرها‭ ‬داخلياً‭. ‬

وقد‭ ‬أدى‭ ‬تطور‭ ‬علوم‭ ‬البيانات‭ ‬والتعلم‭ ‬الآلي‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬احتياج‭ ‬جديد‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬مجموعات‭ ‬بيانات‭ ‬وطنية‭ ‬مصنفة،‭ ‬تُستخدم‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬الآلات‭ ‬وتقييم‭ ‬الخوارزميات‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬تعتمد‭ ‬بشكل‭ ‬متزايد‭ ‬على‭ ‬الاستخبارات‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬المفتوحة‭ ‬ومحركات‭ ‬البحث،‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬تقييم‭ ‬موثوقية‭ ‬وتحامل‭ ‬وعدم‭ ‬حيادية‭ ‬محركات‭ ‬البحث‭ ‬العامة‭. ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخوارزميات‭ ‬الخاصة‭ ‬باستخدام‭ ‬مجموعات‭ ‬بيانات‭ ‬سرية‭ ‬تُدار‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬السلطات‭ ‬العامة‭ ‬ومنها‭ ‬الجيوش‭. 

وقد‭ ‬تحول‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬معركة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها،‭ ‬يتطلب‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬قدرات‭ ‬هجومية‭ ‬ودفاعية‭ ‬متشابكة‭ ‬ومعقدة‭ ‬وديناميكية‭ ‬متغيرة‭. ‬ساحة‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬صعوبتها‭ ‬وتعقيدها‭ ‬أن‭ ‬الإثبات‭ ‬ونسب‭ ‬الأفعال‭ ‬يعطي‭ ‬الأفضلية‭ ‬لمن‭ ‬يهاجم‭. ‬

ويجب‭ ‬على‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬سياق،‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭ ‬قدرة‭ ‬ضاربة‭ ‬جاهزة‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬ساحة‭ ‬استراتيجية‭ ‬مدنية‭ ‬وعسكرية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬يواجه‭ ‬صعوبات‭ ‬في‭ ‬تكييفه‭ ‬مع‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭. ‬وما‭ ‬يزيد‭ ‬الأمر‭ ‬صعوبة‭ ‬أنه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬وبعض‭ ‬القوى‭ ‬المتوسطة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬سيبرانية‭ ‬شاملة،‭ ‬توجد‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬ومنظمات‭ (‬مرتبطة‭ ‬بالإرهاب‭ ‬الدولي‭ ‬أو‭ ‬النزعات‭ ‬القومية‭ ‬المختلفة‭) ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بعمليات‭ ‬سيبرانية‭ ‬تتجاوز‭ ‬نطاق‭ ‬التجسس‭. ‬

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬النسق،‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬الدولة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مؤسساتها،‭ ‬وفي‭ ‬القلب‭ ‬منها‭ ‬الجيش،‭ ‬ضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬عملياتها،‭ ‬وأنشطتها‭ ‬الحيوية،‭ ‬ونشاطاتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التهديدات‭ ‬السيبرانية‭ ‬بفئاتها‭ ‬الثلاث‭: ‬التهديدات‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬المعلومات‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬والتهديدات‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬أنظمة‭ ‬المعلومات،‭ ‬والتهديدات‭ ‬لكن‭ ‬تستهدف‭ ‬أهدافاً‭ ‬مادية‭ ‬مثل‭ ‬المعدات‭ ‬الحيوية‭ ‬والمنشآت‭ ‬عبر‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭.‬

دور‭ ‬الجيوش

في‭ ‬عامنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬تلعب‭ ‬وزارة‭ ‬الجيوش‭ ‬دوراً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬سيادة‭ ‬الدول‭ ‬الرقمية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ضمان‭ ‬مستوى‭ ‬أداء‭ ‬عالٍ‭ ‬لجميع‭ ‬مكونات‭ ‬البيئة‭ ‬الرقمية‭ ‬بالاستفادة‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬المستدامة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬نشر‭ ‬قواتها‭ ‬للقتال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الجديد‭. ‬ولضمان‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬تخضع‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬لتحول‭ ‬رقمي‭ ‬شامل‭ ‬في‭ ‬عملياتها‭ ‬وتجهيزاتها‭. ‬والحالة‭ ‬الفرنسية‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بإنشاء‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬العمليات‭ ‬السيبرانية‭ (‬COMCYBER‭) ‬عام‭ ‬2017‭ ‬والإدارة‭ ‬العامة‭ ‬للرقمنة‭ ‬وأنظمة‭ ‬المعلومات‭ ‬والاتصالات‭ (‬DGNUM‭) ‬في‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬لمواجهة‭ ‬تحديات‭ ‬البيئة‭ ‬الرقمية‭ ‬المتغيرة‭ ‬والسريعة‭ ‬والآنية‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬طرح‭ ‬تحديات‭ ‬عميقة‭ ‬لكل‭ ‬نماذج‭ ‬ومستويات‭ ‬الدفاع‭. ‬

وهناك‭ ‬نماذج‭ ‬متباينة‭ ‬لإدراك‭ ‬جيوش‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬لأهمية‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬كساحة‭ ‬جديدة‭ ‬للمنافسة‭ ‬الجيوسياسية،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬التقليدية‭ ‬كافية‭ ‬دون‭ ‬امتلاك‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬الدفاعية‭ ‬الكاملة‭. ‬فتتبنى‭ ‬فرنسا‭ ‬نموذجاً‭ ‬متوازناً‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬تعزيز‭ ‬الاستقلالية‭ ‬الرقمية‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬التعاون‭ ‬الأوروبي‭ ‬والدولي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خطة‭ ‬تحول‭ ‬رقمي‭ ‬شاملة‭ ‬شملت‭ ‬إنشاء‭ ‬كيانات‭ ‬متخصصة‭ ‬وتطوير‭ ‬أدوات‭ ‬تشفير‭ ‬وطنية،‭ ‬والتوسع‭ ‬في‭ ‬البرمجيات‭ ‬مفتوحة‭ ‬المصدر،‭ ‬وتقليل‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المزودين‭ ‬الأجانب‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الرقمية‭ ‬العالمية‭ ‬عبر‭ ‬تطوير‭ ‬قدرات‭ ‬دفاعية‭ ‬وهجومية‭ ‬سيبرانية‭ ‬متقدمة‭ (‬USCYBERCOM‭) ‬والتعاون‭ ‬مع‭ ‬عمالقة‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬مثل‭ ‬Microsoft‭ ‬و‭ ‬Palantir‭ ‬ومن‭ ‬جانبها‭ ‬تتبع‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬نهجاً‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬والتكامل‭ ‬مع‭ ‬الحلفاء،‭ ‬وأسست‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬السيبرانية‭ ‬الوطنية‮»‬‭ ‬بالتعاون‭ ‬بين‭ ‬الدفاع‭ ‬والاستخبارات،‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬تحالفاتها‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬Five Eyes‭. ‬روسيا‭ ‬تعتمد‭ ‬السيادة‭ ‬المطلقة‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬الوطني،‭ ‬مع‭ ‬تشديد‭ ‬الرقابة‭ ‬وتطوير‭ ‬قدرات‭ ‬هجومية‭ ‬هجينة‭. ‬والصين‭ ‬تسعى‭ ‬للسيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬والبيانات،‭ ‬عبر‭ ‬قوانين‭ ‬صارمة،‭ ‬تطوير‭ ‬بدائل‭ ‬تكنولوجية‭ ‬وطنية،‭ ‬وبرامج‭ ‬دمج‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬مع‭ ‬توسيع‭ ‬نفوذها‭ ‬الرقمي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كمنافس‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬ورغم‭ ‬تباين‭ ‬تلك‭ ‬النماذج،‭ ‬فالجميع‭ ‬يدرك‭ ‬بأن‭ ‬تحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬يتطلب‭ ‬بالضرورة‭ ‬كسر‭ ‬دوائر‭ ‬التبعية‭ ‬التقنية‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬منظومات‭ ‬مستقلة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬أمام‭ ‬الابتزاز‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والقيود‭ ‬الجيوسياسية‭. ‬

ويمكن‭ ‬إجمال‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬تسعى‭ ‬معظم‭ ‬الجيوش‭ ‬للعبه‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الاستقلالية‭ ‬والسيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭:‬

1‭. ‬تعزيز‭ ‬الدفاع‭ ‬السيبراني‭:‬‭ ‬تطور‭ ‬الدفاع‭ ‬السيبراني‭ ‬في‭ ‬الجيوش‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الهجمات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬شامل‭ ‬يدمج‭ ‬بين‭ ‬الوقاية‭ ‬والاستجابة‭ ‬السريعة‭ ‬وإدارة‭ ‬الأزمات‭ ‬بهدف‭ ‬الحماية‭ ‬القصوى‭ ‬للبنى‭ ‬التحتية‭ ‬الحيوية‭ ‬الرقمية‭ ‬وتأمين‭ ‬تدفق‭ ‬البيانات‭ ‬العسكرية‭ ‬والمدنية‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬محاولات‭ ‬اختراق‭ ‬أو‭ ‬تخريب‭. ‬تعتمد‭ ‬الجيوش‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬أنظمة‭ ‬مراقبة‭ ‬واكتشاف‭ ‬مبكر‭ ‬للهجمات‭ (‬Early Warning Systems‭)‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬قدرات‭ ‬الاستجابة‭ ‬التكيفية‭ ‬التي‭ ‬تُمكّن‭ ‬من‭ ‬صد‭ ‬الهجمات‭ ‬والتعافي‭ ‬منها‭ ‬بسرعة‭. ‬أنشأت‭ ‬فرنسا،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬الوكالة‭ ‬الوطنية‭ ‬لأمن‭ ‬أنظمة‭ ‬المعلومات‭ (‬ANSSI‭) ‬لتوفير‭ ‬مظلة‭ ‬دفاعية‭ ‬واسعة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لحماية‭ ‬البنى‭ ‬العسكرية،‭ ‬بل‭ ‬لحماية‭ ‬كافة‭ ‬القطاعات‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬تكامل‭ ‬الدفاع‭ ‬السيبراني‭ ‬ضمن‭ ‬منظومة‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭.‬

2‭. ‬تعزيز‭ ‬القدرات‭ ‬السيبرانية‭ ‬الهجومية‭:‬‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الدفاع‭ ‬وحده‭ ‬كافياً‭ ‬لضمان‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬امتلاك‭ ‬قدرات‭ ‬هجومية‭ ‬سيبرانية‭ ‬أداة‭ ‬ردع‭ ‬استراتيجية‭. ‬تسمح‭ ‬هذه‭ ‬القدرات‭ ‬بالرد‭ ‬على‭ ‬الهجمات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬بشكل‭ ‬متناسب‭ ‬وسريع،‭ ‬بل‭ ‬وأحياناً‭ ‬استباقياً،‭ ‬بهدف‭ ‬شل‭ ‬قدرات‭ ‬الخصوم‭ ‬أو‭ ‬تحييد‭ ‬التهديدات‭ ‬قبل‭ ‬تصعيدها‭. ‬يعكس‭ ‬ذلك‭ ‬تبنّي‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الردع‭ ‬النشط‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬إثبات‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المعاقبة‭ ‬والهجوم‭ ‬المضاد‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭. ‬تنفذ‭ ‬الجيوش‭ ‬تدريبات‭ ‬معقدة‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬رقمية‭ ‬افتراضية‭ ‬لمحاكاة‭ ‬هجمات‭ ‬سيبرانية‭ ‬هجومية‭ ‬وتطوير‭ ‬تكتيكات‭ ‬جديدة‭ ‬باستمرار‭.‬

3‭. ‬تطوير‭ ‬البرمجيات‭ ‬الوطنية‭ ‬والتشفير‭ ‬السيادي‭: ‬تدرك‭ ‬الجيوش‭ ‬أن‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬حلول‭ ‬البرمجيات‭ ‬الأجنبية‭ ‬يعرّضها‭ ‬لمخاطر‭ ‬التبعية‭ ‬والاختراق‭ ‬المحتمل‭. ‬لذلك،‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬حلول‭ ‬برمجية‭ ‬وطنية‭ ‬مصممة‭ ‬خصيصاً‭ ‬لتلبية‭ ‬متطلبات‭ ‬الأمن‭ ‬السيبراني‭ ‬العسكري‭. ‬يشمل‭ ‬ذلك‭ ‬برمجيات‭ ‬إدارة‭ ‬الشبكات،‭ ‬منصات‭ ‬التحكم‭ ‬والسيطرة،‭ ‬والأهم،‭ ‬خوارزميات‭ ‬التشفير‭ ‬السيادي‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬سرية‭ ‬البيانات‭ ‬وحمايتها‭ ‬من‭ ‬التلاعب‭ ‬أو‭ ‬التسريب‭ ‬وتأمين‭ ‬تدفق‭ ‬المعلومات‭ ‬الحساسة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تعرض‭ ‬الأنظمة‭ ‬لتهديدات‭ ‬سيبرانية‭ ‬متطورة‭.‬

4‭. ‬ترسيخ‭ ‬‮«‬سيادة‭ ‬البيانات‮»‬‭:‬‭ ‬مع‭ ‬الاعتماد‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬تقنيات‭ ‬الحوسبة‭ ‬السحابية،‭ ‬والتوسع‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬التوليدي‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬النمو‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬يشهده‭ ‬قطاع‭ ‬البيانات،‭ ‬تبرز‭ ‬الحاجة‭ ‬الملحة‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬سيادة‭ ‬البيانات‮»‬‭ ‬لتعزيز‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭.  ‬ويُقصد‭ ‬بذلك‭ ‬ضمان‭ ‬خضوع‭ ‬البيانات‭ ‬المُولدة‭ ‬للقوانين‭ ‬والتشريعات‭ ‬المعمول‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬والمناطق‭ ‬التي‭ ‬تُجمع‭ ‬وتُعالج‭ ‬فيها،‭ ‬مع‭ ‬مراعاة‭ ‬متطلبات‭ ‬الشفافية‭ ‬الخوارزمية‭ ‬والامتثال‭ ‬للمعايير‭ ‬الأخلاقية‭.‬

5‭. ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬لضمان‭ ‬استدامة‭ ‬التفوق‭ ‬العملياتي‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الرقمية‭:‬‭ ‬يشكل‭ ‬التعاون‭ ‬المؤسسي‭ ‬بين‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬والقطاع‭ ‬الخاص‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬لضمان‭ ‬استدامة‭ ‬التفوق‭ ‬العملياتي‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬الرقمية‭ ‬المتغيرة‭. ‬فمع‭ ‬تسارع‭ ‬وتيرة‭ ‬الابتكار‭ ‬التكنولوجي‭ ‬وتزايد‭ ‬تعقيد‭ ‬التهديدات‭ ‬السيبرانية،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بمقدور‭ ‬الجيوش‭ ‬الاعتماد‭ ‬الحصري‭ ‬على‭ ‬القدرات‭ ‬الذاتية‭ ‬للدولة‭. ‬بل‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬إقامة‭ ‬شراكات‭ ‬استراتيجية‭ ‬مع‭ ‬الشركات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الرائدة‭ ‬ومراكز‭ ‬البحث‭ ‬والتطوير‭ ‬الخاصة،‭ ‬لتوفير‭ ‬حلول‭ ‬متقدمة‭ ‬لضمان‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬يتعاون‭ ‬الجيش‭ ‬الفرنسي‭ ‬مع‭ ‬شركات‭ ‬مثل‭ ‬Whaller‭ ‬لتطوير‭ ‬منصات‭ ‬تواصل‭ ‬آمنة‭ ‬تتيح‭ ‬للقوات‭ ‬التواصل‭ ‬دون‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬أجنبية‭ ‬قد‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬ثغرات‭ ‬أمنية‭ ‬أو‭ ‬تخضع‭ ‬لرقابة‭ ‬خارجية‭.‬

إلا‭ ‬أنّ‭ ‬الجيوش‭ ‬تواجه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬البنيوية‭ ‬والمعقدة‭ ‬التي‭ ‬تعرقل‭ ‬اضطلاعها‭ ‬الكامل‭ ‬بدورها‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية،‭ ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭:‬

1‭. ‬مدى‭ ‬التبعية‭ ‬التكنولوجية‭:‬‭ ‬تمثل‭ ‬التبعية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬لتحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭. ‬ويُقصد‭ ‬بها‭ ‬اعتماد‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدفاعية‭ ‬على‭ ‬تقنيات‭ ‬ومزودي‭ ‬خدمات‭ ‬أجانب‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬الرقمية،‭ ‬والبرمجيات،‭ ‬والحوسبة‭ ‬السحابية،‭ ‬وتحليل‭ ‬البيانات‭. ‬ويترتب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاعتماد‭ ‬فقدان‭ ‬السيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬العمليات‭ ‬الرقمية‭ ‬الحساسة،‭ ‬ما‭ ‬يعرض‭ ‬المؤسسات‭ ‬السيادية‭ ‬والعسكرية‭ ‬لمخاطر‭ ‬الابتزاز‭ ‬السيبراني،‭ ‬والتجسس،‭ ‬والقيود‭ ‬السياسية‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود‭. ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجيوش‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬مزودي‭ ‬خدمات‭ ‬وبرمجيات‭ ‬أجانب،‭ ‬ما‭ ‬يعرضها‭ ‬لمخاطر‭ ‬التبعية‭ ‬وفقدان‭ ‬السيطرة‭. ‬اعتماد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجيوش‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬برامج‭ ‬Microsoft‭ ‬يبرز‭ ‬هذا‭ ‬التحدي‭. ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الحالي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬هذه‭ ‬التبعية‭ ‬على‭ ‬المعدات‭ ‬أو‭ ‬البرمجيات‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد‭ ‬الرقمية‭ (‬Digital Supply Chains‭) ‬وبيئات‭ ‬الحوسبة‭ ‬السحابية‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬للسلطات‭ ‬القضائية‭ ‬للدول‭ ‬المضيفة‭.‬

2‭. ‬التعقيد‭ ‬القانوني‭ ‬والسياسي‭:‬‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الهجمات‭ ‬السيبرانية‭ ‬يقتضي‭ ‬إطاراً‭ ‬قانونياً‭ ‬معقداً‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬الحقوق‭ ‬السيادية‭ ‬والقانون‭ ‬الدولي،‭ ‬مع‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬صعوبة‭ ‬تحديد‭ ‬الفاعلين‭ ‬بدقة‭ (‬Attribution Problem‭)‬،‭ ‬ما‭ ‬يمثل‭ ‬تحدياً‭ ‬محورياً‭ ‬يعوق‭ ‬الاستجابة‭ ‬الفعالة‭. ‬الغموض‭ ‬القانوني‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭ ‬يخلق‭ ‬فراغاً‭ ‬تنظيمياً‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬تطوير‭ ‬سياسات‭ ‬ردع‭ ‬فعالة‭. ‬ويزداد‭ ‬هذا‭ ‬التعقيد‭ ‬بهشاشة‭ ‬البُنى‭ ‬التحتية‭ ‬السيبرانية‭ ‬أمام‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭.‬

3‭. ‬التكلفة‭ ‬والتعقيد‭ ‬التقني‭:‬‭ ‬تطوير‭ ‬حلول‭ ‬سيبرانية‭ ‬سيادية‭ ‬مكلف‭ ‬للغاية،‭ ‬ويتطلب‭ ‬موارد‭ ‬مالية‭ ‬وبشرية‭ ‬وتقنية‭ ‬متقدمة‭ ‬يصعب‭ ‬توفرها‭ ‬باستمرار‭. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬التحديات‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬المالي،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬أيضاً‭ ‬التعقيد‭ ‬الهندسي‭ ‬المرتبط‭ ‬بتطوير‭ ‬أنظمة‭ ‬آمنة‭ ‬ومحمية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التهديدات‭ ‬المعقدة‭ ‬والمتغيرة‭ ‬باستمرار‭. ‬وأخيراً،‭ ‬بناء‭ ‬منظومات‭ ‬سيبرانية‭ ‬وطنية‭ ‬يتطلب‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الكفاءة‭ ‬التشغيلية‭ ‬والاستقلالية‭ ‬السيبرانية،‭ ‬وهي‭ ‬معادلة‭ ‬يصعب‭ ‬تحقيقها‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬الدفاعية‭ ‬التقليدية‭. ‬

الخاتمة‭ ‬

تُعد‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬مطلباً‭ ‬استراتيجياً‭ ‬حتمياً‭ ‬لضمان‭ ‬استقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬وصون‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التحولات‭ ‬المتسارعة‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬العصر‭ ‬الرقمي‭. ‬وتضطلع‭ ‬الجيوش‭ ‬بدور‭ ‬محوري‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬مقومات‭ ‬هذه‭ ‬السيادة،‭ ‬عبر‭ ‬تطوير‭ ‬قدراتها‭ ‬الدفاعية‭ ‬والهجومية،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الشراكات‭ ‬مع‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬والتطوير‭ ‬التكنولوجي‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬المعقدة‭ ‬والمتنامية‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬هذا‭ ‬المسار،‭ ‬فإن‭ ‬السعي‭ ‬لتحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬يُمثل‭ ‬خياراً‭ ‬استراتيجياً‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه‭ ‬لحماية‭ ‬الدول‭ ‬من‭ ‬التهديدات‭ ‬السيبرانية‭ ‬المتغيرة‭ ‬والمتعددة‭ ‬الأبعاد‭ ‬التي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬الرقمي‭ ‬المعاصر‭. ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬سياق،‭ ‬من‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬يتسع‭ ‬دور‭ ‬الجيوش‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السيادة‭ ‬الرقمية‭ ‬للدول‭ ‬في‭ ‬قابل‭ ‬الأيام‭ ‬ليشمل‭: ‬تطوير‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬الدفاعي‭ ‬ضمن‭ ‬معايير‭ ‬سيادية‭. ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬التقنيات‭ ‬الكمية‭ (‬Quantum Technologies‭) ‬لتعزيز‭ ‬القدرات‭ ‬السيبرانية‭. ‬تعزيز‭ ‬التعاون‭ ‬الدولي‭ ‬لوضع‭ ‬أطر‭ ‬قانونية‭ ‬للتصرف‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬السيبراني‭.

الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬وائل‭ ‬صالح‭ ‬خبير‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬تريندز‭ ‬للبحوث‭ ‬والاستشارات‭

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض