Military command center, computer screen and woman in surveillance, headset and tech for communication. Security, world satellite map and soldier at monitor in army office at government control room.

الجيوش الحديثة بين الكمّ، التقنية، والتماسك العملياتي

منذ‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬اتجهت‭ ‬معظم‭ ‬الجيوش‭ ‬الغربية،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬فرنسا،‭ ‬إلى‭ ‬تبنّي‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ‮«‬نموذج‭ ‬الجيش‭ ‬النخبوي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬استند‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث‭ ‬ركائز‭ ‬رئيسية‭:‬

•‭ ‬تقليص‭ ‬العدد‭ ‬في‭ ‬القوات‭ ‬القتالية،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬التخصص‭ ‬والاحترافية‭ ‬النوعية‭.‬

•‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬التقني‭ ‬لتحقيق‭ ‬ميزة‭ ‬تكتيكية‭ ‬عبر‭ ‬‮«‬الضربات‭ ‬الدقيقة‭ ‬عن‭ ‬بُعد‮»‬‭.‬

•‭ ‬إعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية‭ ‬بما‭ ‬يسمح‭ ‬بالتدخل‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬نزاعات‭ ‬خارجية‭ ‬قصيرة‭ ‬الأمد‭ ‬وذات‭ ‬أهداف‭ ‬محددة‭.‬

أثبت‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬فعاليته‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬المحدودة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الزمان‭ ‬والحجم،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كوسوفو‭ ‬وليبيا،‭ ‬حيث‭ ‬مكّن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬نتائج‭ ‬سريعة‭ ‬بتكلفة‭ ‬بشرية‭ ‬ومادية‭ ‬منخفضة‭ ‬نسبياً‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الميداني‭ ‬بدأ‭ ‬يتغيّر‭ ‬مع‭ ‬عودة‭ ‬الحروب‭ ‬التقليدية‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق،‭ ‬والتي‭ ‬تتطلب‭ ‬قدرات‭ ‬استنزافية،‭ ‬وإنتاجية‭ ‬صناعية‭ ‬عالية،‭ ‬ومخزونات‭ ‬استراتيجية‭ ‬ضخمة‭.‬

وقد‭ ‬جاءت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬لتشكّل‭ ‬اختباراً‭ ‬صارخاً‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭. ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬الجيوش‭ ‬الغربية‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬معدلات‭ ‬استهلاك‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬للذخائر‭ ‬والموارد،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬ثغرات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬العقائد‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬متطلبات‭ ‬النزاعات‭ ‬الطويلة‭ ‬وعالية‭ ‬الكثافة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضع‭ ‬النموذج‭ ‬النخبوي‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬مراجعة‭ ‬جذرية،‭ ‬ضمن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬أكثر‭ ‬توازناً‭ ‬وتكيفاً‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭.‬

تشهد‭ ‬الساحة‭ ‬الدفاعية‭ ‬إذاً‭ ‬تحوّلات‭ ‬جوهرية‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬العسكرية‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬ضرورة‭ ‬مراجعة‭ ‬نماذجها‭ ‬الدفاعية‭ ‬ومقارباتها‭ ‬القتالية‭. ‬فقد‭ ‬أعادت‭ ‬عودة‭ ‬الحروب‭ ‬عالية‭ ‬الكثافة‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬تركيز‭ ‬الجيوش‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬مكافحة‭ ‬الإرهاب‭ ‬والمواجهات‭ ‬غير‭ ‬المتماثلة،‭ ‬ترتيب‭ ‬الأولويات‭ ‬الدفاعية،‭ ‬وأعادت‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة‭ ‬جوهرية‭ ‬حول‭ ‬جاهزية‭ ‬الجيوش‭ ‬للتكيّف‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬النزاعات‭ ‬الحديثة‭.‬

هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬يضع‭ ‬صناع‭ ‬القرار‭ ‬العسكري‭ ‬أمام‭ ‬تحدٍّ‭ ‬مركّب‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬توازن‭ ‬فعّال‭ ‬بين‭ ‬ثلاثة‭ ‬عناصر‭ ‬مترابطة‭: ‬الحجم‭ ‬الكمي‭ ‬للقوات‭ ‬والمعدات،‭ ‬والتفوّق‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬وضمان‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭. ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬أي‭ ‬اختلال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوازن‭ ‬قد‭ ‬يُفقد‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬القتالية‭ ‬المعقدة‭ ‬والممتدة‭ ‬زمنياً‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬تُقسّم‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬محاور‭ ‬رئيسية‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬الإشكالية‭ ‬المركزية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإعادة‭ ‬بناء‭ ‬التوازن‭ ‬الدفاعي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تحولات‭ ‬البيئة‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬يتناول‭ ‬المحور‭ ‬الأول‭ ‬تحوّل‭ ‬مفهوم‭ ‬الكتلة‭ ‬العسكرية‭ ‬من‭ ‬الكم‭ ‬العددي‭ ‬إلى‭ ‬الفعالية‭ ‬العملياتية،‭ ‬بوصفها‭ ‬أساس‭ ‬الجاهزية‭ ‬الحديثة‭. ‬أما‭ ‬المحور‭ ‬الثاني،‭ ‬فيناقش‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬كأداة‭ ‬تمكين‭ ‬لا‭ ‬كبديل،‭ ‬محللاً‭ ‬حدود‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬بنية‭ ‬بشرية‭ ‬وتنظيمية‭ ‬فعّالة‭. ‬بينما‭ ‬يعالج‭ ‬المحور‭ ‬الثالث‭ ‬أزمة‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي،‭ ‬ويطرح‭ ‬المرونة‭ ‬المركبة‭ ‬كخيار‭ ‬استراتيجي‭ ‬لمواجهة‭ ‬تحديات‭ ‬النزاعات‭ ‬الممتدة‭.‬

تحول‭ ‬المفهوم‭ ‬العسكري‭ ‬للكتلة‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬الكم‭ ‬إلى‭ ‬الفعالية

لطالما‭ ‬شكّل‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الكم‮»‬‭ ‬أحد‭ ‬الأعمدة‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬العسكري‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭. ‬فمنذ‭ ‬سون‭ ‬تزو‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬وكلاوزفيتز‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وحتى‭ ‬الحروب‭ ‬العالمية‭ ‬والنزاعات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬ظل‭ ‬النقاش‭ ‬محتدماً‭ ‬حول‭ ‬جدوى‭ ‬الكتلة‭ ‬العددية‭ ‬مقارنة‭ ‬بالقدرة‭ ‬النوعية‭ ‬والتفوق‭ ‬التكنولوجي‭.‬‭ ‬ومع‭ ‬تغيّر‭ ‬طبيعة‭ ‬التهديدات‭ ‬من‭ ‬المواجهات‭ ‬التقليدية‭ ‬إلى‭ ‬الحروب‭ ‬الهجينة‭ ‬والسيبرانية،‭ ‬وارتفاع‭ ‬كلفة‭ ‬المعدات‭ ‬المتطورة،‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الكم‭ ‬والنوع،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬آخر‭: ‬بين‭ ‬الكتلة‭ ‬المادية‭ ‬الكمية‭ ‬والتأثير‭ ‬العملياتي‭.‬

في‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي،‭ ‬كانت‭ ‬الكتلة‭ ‬الكمية‭ ‬تُقاس‭ ‬بحجم‭ ‬القوة‭ ‬البشرية‭ ‬وعدد‭ ‬الدبابات‭ ‬والطائرات،‭ ‬أي‭ ‬قدرة‭ ‬الجيوش‭ ‬على‭ ‬الحشد‭ ‬الكثيف‭. ‬لكن‭ ‬القراءة‭ ‬الدقيقة‭ ‬للتجربة‭ ‬التاريخية،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬سون‭ ‬تزو‭ ‬وكلاوزفيتز،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الممارسات‭ ‬الحديثة،‭ ‬تكشف‭ ‬أن‭ ‬الكتلة‭ ‬الناجعة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حشد‭ ‬عددي،‭ ‬بل‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تركيز‭ ‬الأثر‭ ‬القتالي‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬الحاسمين‭. ‬فالتفوق‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بالعدد‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬بكيفية‭ ‬تنسيق‭ ‬الموارد‭ ‬وتوظيفها‭ ‬بفعالية‭.‬

هذا‭ ‬التحول‭ ‬المفاهيمي‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بـ«الكتلة‭ ‬الكمية‭ ‬الوظيفية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬التشغيلية،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬مزيجاً‭ ‬بين‭ ‬الحجم‭ ‬الكافي‭ ‬والتكامل‭ ‬العملياتي‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الاستمرارية‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬عملياتية‭ ‬سريعة‭ ‬التحول‭ ‬ومعقدة‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الحرب‭ ‬لحظة‭ ‬انفجار‭ ‬مفاجئ‭ ‬للصراع،‭ ‬بل‭ ‬عملية‭ ‬ممتدة‭ ‬ومعقدة،‭ ‬تشمل‭ ‬السياسة،‭ ‬والصناعة،‭ ‬والإعلام،‭ ‬والدعم‭ ‬اللوجستي،‭ ‬والمعلوماتي‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬الكتلة‭ ‬كحساب‭ ‬رياضي‭ ‬لعدد‭ ‬العناصر،‭ ‬بل‭ ‬كإنتاج‭ ‬ديناميكي‭ ‬لتفاعل‭ ‬القيادة،‭ ‬والتنظيم،‭ ‬والموارد‭.‬

لقد‭ ‬أظهرت‭ ‬النزاعات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬مثل‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬أو‭ ‬المعارك‭ ‬في‭ ‬ناغورني‭ ‬كاراباخ،‭ ‬أن‭ ‬الكتلة‭ ‬الفعالة‭ ‬لا‭ ‬تُبنى‭ ‬فقط‭ ‬بجيوش‭ ‬نظامية‭ ‬ضخمة،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تُنتج‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنظيمات‭ ‬محلية‭ ‬مرنة‭ ‬أو‭ ‬تحالفات‭ ‬متعددة‭ ‬الجنسيات‭ ‬ذات‭ ‬تكامل‭ ‬عالي‭ ‬المستوى‭. ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬يفرض‭ ‬مراجعة‭ ‬جذرية‭ ‬للمفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬للكتلة،‭ ‬ليشمل‭ ‬أبعاداً‭ ‬جديدة‭ ‬مثل‭ ‬العمق‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬التكامل‭ ‬البيني‭ ‬بين‭ ‬الأسلحة،‭ ‬والجاهزية‭ ‬الصناعية‭ ‬والمدنية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬التحالفات‭ ‬الدولية‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬التأثير‭ ‬الجماعي‭. ‬

وعادة‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬شكلين‭ ‬أساسيين‭ ‬لمفهوم‭ ‬الكتلة‭:‬

• الكتلة‭ ‬العددية‭ (‬Raw Mass‭): ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الحجم‭ ‬العددي‭ ‬الإجمالي‭ ‬للقوة‭ ‬العسكرية،‭ ‬والذي‭ ‬يشمل‭ ‬الأفراد،‭ ‬والمعدات،‭ ‬والقدرات‭ ‬اللوجستية،‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬فاعلية‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬أو‭ ‬جاهزيتها‭ ‬القتالية‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬هي‭ ‬تمثيل‭ ‬كمي‭ ‬بحت‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬الكفاءة‭ ‬الفعلية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

• الكتلة‭ ‬التشغيلية‭ (‬Operational Mass‭): ‬تمثل‭ ‬القدرة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للقوة‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬تأثير‭ ‬قتالي‭ ‬فعّال‭ ‬ومركّز‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬المناسبين‭. ‬وتُعبّر‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬جاهزية‭ ‬وتكامل‭ ‬العناصر‭ ‬العسكرية‭ (‬بشرية‭ ‬وتقنية‭ ‬ولوجستية‭) ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الحجم‭ ‬العددي‭ ‬الكلي‭.‬

وتكمن‭ ‬الإشكالية‭ ‬الجوهرية‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬الكتلة‭ ‬العددية‭ ‬كغاية،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬قدرة‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الكم‭ ‬الخام‭ ‬إلى‭ ‬أثر‭ ‬عملياتي‭ ‬فعّال‭. ‬ويتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬تحولاً‭ ‬نوعياً‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬التنظيم‭ ‬والتنسيق‭ ‬والتشغيل‭.‬

لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬البنيوي،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬ضمان‭ ‬تكامل‭ ‬ثلاثي‭ ‬المحاور‭:‬

1‭.‬ القيادة‭ ‬والسيطرة‭: (‬Command and Control‭ – ‬C2‭) ‬والتي‭ ‬تضمن‭ ‬سرعة‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬ودقته،‭ ‬مع‭ ‬إمكانية‭ ‬التفاعل‭ ‬اللحظي‭ ‬مع‭ ‬المستجدات‭ ‬العملياتية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

2‭.‬ قابلية‭ ‬التشغيل‭ ‬البيني‭:‬‭ (‬Interoperability‭) ‬أي‭ ‬تناغم‭ ‬العمليات‭ ‬بين‭ ‬القوات‭ ‬المختلفة‭ (‬برية،‭ ‬جوية،‭ ‬بحرية،‭ ‬سيبرانية‭) ‬عبر‭ ‬أنظمة‭ ‬اتصال‭ ‬موحدة‭ ‬ومعايير‭ ‬تشغيل‭ ‬مشتركة،‭ ‬بما‭ ‬يُمكّن‭ ‬من‭ ‬تنسيق‭ ‬الجهد‭ ‬الجماعي‭ ‬بسلاسة‭.‬

3‭.‬ التكامل‭ ‬المعلوماتي‭ ‬واللوجستي‭: ‬حيث‭ ‬تُدار‭ ‬الموارد‭ ‬بشكل‭ ‬ذكي‭ ‬ومرن،‭ ‬وتُنسَّق‭ ‬خطوط‭ ‬الإمداد‭ ‬لحظياً،‭ ‬ويُضمن‭ ‬تدفق‭ ‬مستمر‭ ‬للمعلومات‭ ‬بين‭ ‬المستويات‭ ‬التكتيكية‭ ‬والاستراتيجية‭.‬

إن‭ ‬بناء‭ ‬كتلة‭ ‬عسكرية‭ ‬فعالة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مرتبطاً‭ ‬بعدد‭ ‬الجنود‭ ‬أو‭ ‬المركبات‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬مشروطاً‭ ‬بقدرة‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬انسجام‭ ‬داخلي‭ ‬بين‭ ‬مكوناتها‭ ‬وتفعيل‭ ‬التكامل‭ ‬الرأسي‭ (‬قيادة‭ – ‬ميدان‭) ‬والأفقي‭ (‬قوات‭ – ‬دعم‭ ‬–‭ ‬معلومات‭). ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬التناسق،‭ ‬تظل‭ ‬الكتلة‭ ‬العددية‭ ‬مجرد‭ ‬كتلة‭ ‬خام‭ ‬بلا‭ ‬تأثير‭ ‬حقيقي‭.‬

في‭ ‬عالم‭ ‬تتسم‭ ‬بيئته‭ ‬الأمنية‭ ‬بالتقلبات‭ ‬المتسارعة،‭ ‬فإن‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكتلة‭ ‬الفيزيائية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الكتلة‭ ‬الاستراتيجية‮»‬‭ ‬يُعد‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬لبناء‭ ‬قوة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الردع‭ ‬والمواجهة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬مراجعة‭ ‬عميقة‭ ‬للعقيدة،‭ ‬والبنية‭ ‬التنظيمية،‭ ‬ونظم‭ ‬التدريب،‭ ‬بل‭ ‬وثقافة‭ ‬التفكير‭ ‬العسكري‭ ‬ذاتها‭.‬

التقنية‭ ‬كأداة‭ ‬تمكين‭ ‬لا‭ ‬كبديل‭ ‬–‭ ‬جدلية‭ ‬التفوق‭ ‬النوعي

مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬أحدث‭ ‬إدخال‭ ‬السلاح‭ ‬النووي‭ ‬تحولاً‭ ‬جذرياً‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوى،‭ ‬إذ‭ ‬برز‭ ‬تفوّق‭ ‬النوع‭ ‬على‭ ‬الكم‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأسلحة‭ ‬لم‭ ‬تُستخدم‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬فإن‭ ‬الابتكار‭ ‬التكنولوجي‭ ‬واصل‭ ‬تغيير‭ ‬وجه‭ ‬الحروب‭. ‬فقد‭ ‬أسهم‭ ‬التقدّم‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬كالدقة‭ ‬التوجيهية،‭ ‬والاتصالات،‭ ‬وأنظمة‭ ‬الاستشعار،‭ ‬والقيادة‭ ‬والسيطرة،‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬عقيدة‭ ‬عسكرية‭ ‬جديدة‭ ‬تُعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬‮«‬تحقيق‭ ‬الأثر‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬عبر‭ ‬تدمير‭ ‬العدو‭ ‬بالضرورة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تركيز‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬المناسبين‭ ‬لتحقيق‭ ‬تأثير‭ ‬حاسم‭ ‬بأقل‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الخسائر،‭ ‬وفق‭ ‬المفهوم‭ ‬المعروف‭ ‬بـ«العمليات‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ (‬EBO‭)‬‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬الطفرة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬لم‭ ‬تَخلُ‭ ‬من‭ ‬تحديات‭. ‬فقد‭ ‬أدت‭ ‬تكاليف‭ ‬التطوير،‭ ‬والصيانة،‭ ‬والتشغيل‭ ‬الباهظة‭ ‬للأنظمة‭ ‬الحديثة‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬أعداد‭ ‬العتاد‭ ‬والوحدات‭ ‬القتالية‭. ‬فبينما‭ ‬ارتفعت‭ ‬جودة‭ ‬الأداء،‭ ‬أفضى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬حجم‭ ‬القوات،‭ ‬مما‭ ‬أضعف‭ ‬هامش‭ ‬المناورة‭ ‬في‭ ‬النزاعات‭ ‬الممتدة‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬الكثافة‭ ‬العالية‭.‬

ويكشف‭ ‬النموذج‭ ‬الفرنسي‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬بوضوح،‭ ‬حيث‭ ‬تُظهر‭ ‬بنية‭ ‬الجيش‭ ‬الفرنسي،‭ ‬رغم‭ ‬محافظتها‭ ‬على‭ ‬شكلها‭ ‬‮«‬الكامل‮»‬،‭ ‬افتقاراً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬السُّمك‭ ‬العملياتي‮»‬‭ ‬الكافي‭ ‬لإدارة‭ ‬حرب‭ ‬شاملة‭ ‬أو‭ ‬خوض‭ ‬مواجهات‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬ففي‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ ‬1990‭ ‬و2020،‭ ‬تراجع‭ ‬عدد‭ ‬الطائرات‭ ‬القتالية‭ ‬بنسبة‭ ‬58‭ %‬،‭ ‬ومروحيات‭ ‬الجيش‭ ‬البري‭ ‬بنسبة‭ ‬57‭ %‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تقليص‭ ‬عدد‭ ‬الكتائب‭ ‬والوحدات‭ ‬البحرية،‭ ‬ما‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬فرنسا‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬تأثير‭ ‬ميداني‭ ‬كثيف‭ ‬عند‭ ‬الحاجة‭.‬

ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬العسكرية‭ ‬تُعد‭ ‬عاملاً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬التقليدية‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الجوهري‭ ‬يتمثل‭ ‬فيما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬التقنية‭ ‬تُشكّل‭ ‬بديلاً‭ ‬حقيقياً‭ ‬للعناصر‭ ‬البشرية‭ ‬والتنظيمية،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬لتعزيز‭ ‬الكفاءة‭ ‬العملياتية‭. ‬ويُعد‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬القضايا‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬إثارةً‭ ‬للجدل‭. ‬وقد‭ ‬سعت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬هذا‭ ‬الإشكال‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليل‭ ‬مقارن‭ ‬بين‭ ‬اتجاهات‭ ‬التسلّح‭ ‬‮«‬عالية‭ ‬التقنية‮»‬‭ ‬ومرتفعة‭ ‬الكلفة،‭ ‬والمقاربات‭ ‬‮«‬المتوازنة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬حلول‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬وأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للنشر‭.‬

شهدت‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬تحوّلاً‭ ‬لافتاً‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬استخدام‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬العسكرية،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬النظم‭ ‬المتطورة‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬الجيوش‭ ‬الكبرى‭. ‬فقد‭ ‬أثبتت‭ ‬درونات‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬بيرقدار‮»‬‭ ‬التركية‭ ‬و»شاهد‮»‬‭ ‬الإيرانية،‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬تأثيرات‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القتال،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬تُدمج‭ ‬ضمن‭ ‬نسق‭ ‬عملياتي‭ ‬مرن‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الرصد،‭ ‬والتحكم،‭ ‬والضربات‭ ‬الدقيقة‭. ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬تجسّد‭ ‬جوهر‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بفلسفة‭ ‬‮«‬الابتكار‭ ‬الموزون‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬استثمار‭ ‬تقنيات‭ ‬قابلة‭ ‬للنشر‭ ‬السريع،‭ ‬وبتكلفة‭ ‬تشغيلية‭ ‬منخفضة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التضحية‭ ‬بالفعالية‭ ‬العملياتية‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬تكشف‭ ‬برامج‭ ‬التسليح‭ ‬الكبرى،‭ ‬مثل‭ ‬المقاتلة‭ ‬F-35‭ ‬أو‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬Scaf‮»‬‭ ‬الأوروبي،‭ ‬أن‭ ‬السعي‭ ‬المفرط‭ ‬نحو‭ ‬التفوق‭ ‬التقني‭ ‬قد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬تحديات‭ ‬جوهرية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الفاعلية‭ ‬الزمنية‭ ‬والتكتيكية‭. ‬فقد‭ ‬أورد‭ ‬تقرير‭ ‬برلماني‭ ‬فرنسي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬2025‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬تعاني‭ ‬غالباً‭ ‬تأخيرات‭ ‬مزمنة‭ ‬وتكاليف‭ ‬متصاعدة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تضمن‭ ‬بالضرورة‭ ‬تفوقاً‭ ‬عملياتياً‭ ‬حاسماً‭. ‬ويزداد‭ ‬هذا‭ ‬الإشكال‭ ‬تعقيداً‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬قاعدة‭ ‬صناعية‭ ‬وطنية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تولي‭ ‬مهام‭ ‬التشغيل‭ ‬والصيانة‭. ‬وهنا‭ ‬يطرح‭ ‬التقرير‭ ‬تساؤلاً‭ ‬محورياً‭ ‬حول‭ ‬استدامة‭ ‬التقنية‭: ‬هل‭ ‬تمتلك‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬الفرنسية‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬الصناعية‭ ‬والسيادية‭ ‬اللازمة‭ ‬لدعم‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬المعقدة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات؟

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تطرح‭ ‬مقاربة‭ ‬‮«‬High–Low Mix‮»‬‭ ‬نفسها‭ ‬كحل‭ ‬عملي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬أنظمة‭ ‬عالية‭ ‬التقنية‭ ‬وأخرى‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬وأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للاستهلاك‭ ‬في‭ ‬النزاعات‭ ‬الممتدة‭. ‬وتتمثل‭ ‬أبرز‭ ‬ملامح‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬في‭:‬

• المسارات‭ ‬الموازية‭ ‬للتسليح‭: ‬عبر‭ ‬استغلال‭ ‬المعدات‭ ‬المدنية،‭ ‬مثل‭ ‬مركبات‭ ‬الدعم‭ ‬أو‭ ‬الدرونات‭ ‬التجارية،‭ ‬وتكييفها‭ ‬لأغراض‭ ‬عسكرية‭.‬

• دمج‭ ‬الوحدات‭ ‬منخفضة‭ ‬التقنية‭: ‬كالكَتائب‭ ‬الخفيفة‭ ‬ذات‭ ‬التدريب‭ ‬السريع،‭ ‬والمجهزة‭ ‬بأسلحة‭ ‬بسيطة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬القتال‭ ‬الثانية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬الجغرافية‭ ‬الصعبة‭.‬

• تعزيز‭ ‬المرونة‭ ‬الصناعية‭:‬‭ ‬عبر‭ ‬صيانة‭ ‬وتخزين‭ ‬الأنظمة‭ ‬المتقادمة‭ ‬القابلة‭ ‬للإحياء،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬دبابات‭ ‬T-72‭ ‬أو‭ ‬ناقلات‭ ‬VAB‭ ‬الفرنسية‭.‬

إن‭ ‬التحدي‭ ‬الفعلي‭ ‬إذاً‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬السيطرة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬سلسلة‭ ‬إنتاجها‭ ‬ودورة‭ ‬حياتها‭. ‬فغياب‭ ‬السيادة‭ ‬الصناعية‭ ‬والتقنية‭ ‬يجعل‭ ‬الجيوش‭ ‬عرضة‭ ‬للاعتماد‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الحسم‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يبرز‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الأمن‭ ‬الصناعي‭ ‬الدفاعي‮»‬‭ ‬كركن‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬عقيدة‭ ‬دفاعية‭ ‬وطنية‭ ‬مستقلة‭. ‬وتدعو‭ ‬توصيات‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

• تطوير‭ ‬طيف‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬الذخائر‭ ‬محلياً،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الذخائر‭ ‬الذكية‭ ‬والطويلة‭ ‬المدى‭.‬

• دعم‭ ‬شركات‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الناشئة‭ ‬لإنتاج‭ ‬درونات‭ ‬هجومية‭ ‬ودفاعية‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬المحلي‭.‬

• تقنين‭ ‬استيراد‭ ‬التقنيات‭ ‬الأجنبية‭ ‬لصالح‭ ‬حلول‭ ‬وطنية‭ ‬ومشتركة‭ ‬مع‭ ‬حلفاء‭ ‬ومستدامة‭.‬

وفي‭ ‬المحصلة،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬التقنية‭ ‬العسكرية‭ ‬تمثل‭ ‬عاملاً‭ ‬مضاعفاً‭ ‬للفعالية‭ ‬العملياتية،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬البنية‭ ‬البشرية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬والعقائدية‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬الحديثة‭. ‬فصانع‭ ‬القرار‭ ‬العسكري‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مقاربة‭ ‬متوازنة‭ ‬تراعي‭ ‬التفوق‭ ‬النوعي‭ ‬دون‭ ‬الإخلال‭ ‬بالجاهزية‭ ‬الكمية،‭ ‬وتعزز‭ ‬السيادة‭ ‬الصناعية‭ ‬دون‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬التبعية‭ ‬أو‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬التعقيد‭. ‬فالحرب‭ ‬المعاصرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬السلاح‭ ‬الأقوى،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يُحسن‭ ‬توظيفه‭ ‬ضمن‭ ‬نسق‭ ‬مرن،‭ ‬مدعوم‭ ‬بعقيدة‭ ‬متكاملة‭ ‬وعمق‭ ‬صناعي‭ ‬سيادي‭.‬

أزمة‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي‭: ‬المرونة‭ ‬المركبة‭ ‬كحل‭ ‬استراتيجي

تُظهر‭ ‬التجارب‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي‭ ‬يتفوق‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬ميزة‭ ‬تقنية‭ ‬أو‭ ‬عددية،‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬فُعّل‭ ‬ضمن‭ ‬منظومة‭ ‬قيادة‭ ‬مرنة‭ ‬وشبكة‭ ‬دعم‭ ‬لوجستي‭ ‬متكاملة‭. ‬فالحرب‭ ‬لا‭ ‬تُحسم‭ ‬في‭ ‬الخطوط‭ ‬الأمامية‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬تُكسب‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬القيادة،‭ ‬ومراكز‭ ‬الصيانة،‭ ‬ومستودعات‭ ‬الذخائر‭. ‬وتشير‭ ‬تقارير‭ ‬الدفاع‭ ‬الفرنسية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬أبرز‭ ‬الإشكاليات‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬ضعف‭ ‬قدرة‭ ‬الجيش‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬‮«‬الكتلة‭ ‬التشغيلية‭ ‬المستدامة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬عمليات‭ ‬متزامنة‭ ‬على‭ ‬جبهات‭ ‬متعددة‭ ‬دون‭ ‬انهيار‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الدعم‭.‬

وتتجلى‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬النقص‭ ‬الحاد‭ ‬بالمخزون‭ ‬الذخائري،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬الكميات‭ ‬المتاحة‭ ‬سوى‭ ‬لأسابيع‭ ‬محدودة‭ ‬من‭ ‬القتال‭ ‬عالي‭ ‬الكثافة‭. ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تبقى‭ ‬خطوط‭ ‬الإمداد‭ ‬تقليدية‭ ‬نسبياً،‭ ‬ما‭ ‬يُقيّد‭ ‬سرعة‭ ‬التعويض‭ ‬الميداني‭ ‬للخسائر،‭ ‬ويُضعف‭ ‬مرونة‭ ‬الانتشار‭. ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬‮«‬القابلية‭ ‬للتعبئة‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عبر‭ ‬منظومات‭ ‬الاحتياط‭ ‬البشري،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شراكات‭ ‬مدنية–عسكرية،‭ ‬كإعادة‭ ‬توجيه‭ ‬الصناعات‭ ‬المدنية‭ ‬لإنتاج‭ ‬الذخائر‭ ‬والمعدات،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ويُعاد‭ ‬التفكير‭ ‬فيه‭ ‬حالياً‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأوروبي‭.‬

لكن‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي‭ ‬لا‭ ‬يُختزل‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الفني‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬يتداخل‭ ‬مع‭ ‬عوامل‭ ‬ثقافية‭ ‬وتنظيمية‭ ‬حيوية‭ ‬مثل‭: ‬سرعة‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬ودرجة‭ ‬مركزية‭ ‬القيادة،‭ ‬ومرونة‭ ‬التشكيلات،‭ ‬والتدريب‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الفروع‭. ‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أهم‭ ‬المقاربات‭ ‬المطروحة‭ ‬لمعالجة‭ ‬أزمة‭ ‬التماسك‭ ‬العملياتي،‭ ‬تبرز‭ ‬استراتيجية‭ ‬‮«‬التفاضل‭ ‬البنيوي‮»‬‭ ‬داخل‭ ‬الجيش،‭ ‬أي‭ ‬إيجاد‭ ‬تمايز‭ ‬وظيفي‭ ‬بين‭ ‬مستوياته‭ ‬المختلفة‭ ‬بهدف‭ ‬بناء‭ ‬تكامل‭ ‬يتيح‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬طيف‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬السيناريوهات،‭ ‬من‭ ‬الردع‭ ‬النووي‭ ‬إلى‭ ‬مكافحة‭ ‬التمرد،‭ ‬مروراً‭ ‬بالحرب‭ ‬النظامية‭ ‬التقليدية‭. ‬ويقترح‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬بناء‭ ‬جيش‭ ‬متعدد‭ ‬الطبقات،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي‭:‬

•‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬احترافية‭ ‬مرنة‮»‬‭:‬‭ ‬تمثل‭ ‬القوة‭ ‬الضاربة‭ ‬عالية‭ ‬التقنية‭.‬

•‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬احتياط‭ ‬تكتيكي‮»‬‭:‬‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬امتصاص‭ ‬الصدمات‭ ‬وتعزيز‭ ‬الجبهات‭.‬

•‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬مدنية–عسكرية‮»‬‭:‬‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬الدعم‭ ‬اللوجستي‭ ‬والمعلوماتي‭ ‬أثناء‭ ‬الطوارئ‭.‬

ما‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬هو‭ ‬تحرير‭ ‬الجيش‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬الأحادي‭ ‬على‭ ‬الكم‭ ‬أو‭ ‬النوع،‭ ‬وتوجيه‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬نحو‭ ‬توازن‭ ‬تركيبي‭ ‬يُراعي‭ ‬محدودية‭ ‬الموارد‭ ‬ويستوعب‭ ‬ديناميات‭ ‬البيئة‭ ‬الدولية‭.‬

استراتيجية‭ ‬‮«‬التفاضل‭ ‬البنيوي‮»‬‭ ‬و»التوازن‭ ‬التركيبي‮»‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬عن‭ ‬البعد‭ ‬الوطني‭ ‬والتعاوني‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تحالفات،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬بناء‭ ‬دفاع‭ ‬سيادي‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬الانعزال،‭ ‬بل‭ ‬يتطلب‭ ‬تعزيز‭ ‬مشاريع‭ ‬الدفاع‭ ‬المشترك،‭ ‬وتوحيد‭ ‬المعايير‭ ‬العملياتية،‭ ‬وتطوير‭ ‬قاعدة‭ ‬صناعية‭ ‬دفاعية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬القاري‭.‬

في‭ ‬المحصلة،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يُقاس‭ ‬الجيش‭ ‬الحديث‭ ‬بعدد‭ ‬دباباته‭ ‬أو‭ ‬مدى‭ ‬صواريخه‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬السكون‭ ‬إلى‭ ‬الفعل،‭ ‬ومن‭ ‬الدفاع‭ ‬إلى‭ ‬الهجوم،‭ ‬ومن‭ ‬الاستنزاف‭ ‬إلى‭ ‬الاستعادة‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نموذج‭ ‬دفاعي‭ ‬متمايز،‭ ‬مرن،‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬التعلم‭ ‬المستمر،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬المعارك‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خطوط‭ ‬الإنتاج‭.‬

خاتمة‭: ‬التوازن‭ ‬الديناميكي‭ ‬كمبدأ‭ ‬مؤسس‭ ‬للدفاع‭ ‬الحديث

لقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬للتخلي‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬الخطية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬العدد‭ ‬أو‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬معياراً‭ ‬مطلقاً‭ ‬للقوة،‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬ديناميكي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الكم‭ ‬والنوع‭ ‬نحو‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الكتلة‭ ‬العددية‭ ‬عبر‭ ‬الذكاء،‭ ‬وتسخير‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬لتمكين‭ ‬العنصر‭ ‬البشري،‭ ‬وبناء‭ ‬التماسك‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الفاعلية،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬التعقيد‭ ‬الهيكلي‭. ‬وبهذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬تصبح‭ ‬الجيوش‭ ‬الحديثة‭ ‬مستعدة‭ ‬فعلياً،‭ ‬لا‭ ‬شكلياً،‭ ‬لمواجهة‭ ‬تحديات‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

فالمعركة‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تدور‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬البنية‭ ‬الدفاعية‭: ‬في‭ ‬العقل‭ ‬المفكر،‭ ‬واليد‭ ‬العاملة،‭ ‬وخط‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬العسكري،‭ ‬ومراكز‭ ‬البيانات‭. ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬القوة‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬القرار‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬تجسيداً‭ ‬مركباً‭ ‬لمنظومة‭ ‬متكاملة‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬والجاهزية‭ ‬البشرية،‭ ‬والسيادة‭ ‬الاستراتيجية‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬فإن‭ ‬الجيوش‭ ‬الفعالة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬القادرة‭ ‬على‭:‬

وبهذا‭ ‬الفهم،‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬الجيش‭ ‬الحديث‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬للردع‭ ‬أو‭ ‬القوة‭ ‬الصلبة،‭ ‬بل‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬إنتاجية‭ ‬للجاهزية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الوطنية‭. ‬وهنا،‭ ‬بالضبط،‭ ‬يتجسد‭ ‬جوهر‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الكتلة،‭ ‬والتقنية،‭ ‬والتماسك‭ ‬العملياتي،‭ ‬باعتبارها‭ ‬أعمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬لبناء‭ ‬جيش‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬المواجهة،‭ ‬وقابل‭ ‬للاستمرار‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬متغيرة‭ ‬ومعقدة‭.‬

الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬وائل‭ ‬صالح‭ ‬‬مستشار‭ ‬بمركز‭ ‬تريندز‭ ‬للبحوث‭ ‬والاستشارات‭

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض