تمثل الحروب فرصة للتطوير العسكري، وابتكار منظومات جديدة، أو تطوير ما هو قائم منها، خاصة وأنها تساعد على تقييم ماهية الأسلحة التي تحقق نجاحاً بارزاً، وتلك التي تحتاج إلى إعادة النظر في جدواها، وربما كانت أحد أبرز النتائج المترتبة على الحرب الروسية – الأوكرانية هو إعادة النظر في دبابات القتال الرئيسية، خاصة في ظل تصاعد توظيف الطائرات المسيرة في تدميرها، وبدأت كل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في تقديم تصورات متعددة لدبابات المستقبل، والتي تأخذ في الاعتبار التحديات التي تواجهها الدبابات الحالية، بالإضافة إلى توضيح كيفية الاستفادة من التطورات التكنولوجية الحالية، مثل الذكاء الاصطناعي، لدعم الدبابات في حروب المستقبل.
ملامح دبابات المستقبل في الولايات المتحدة:
بدأت الولايات المتحدة، منذ العام 2022، في طرح تصورات ونماذج عملية لما ستكون عليه دبابات القتال الرئيسية الجديدة، والتي استقرت واشنطن على تسميتها «أم 1 إيه 3 أبرامز» (M1E3 Abrams)، بعدما وافق الجيش الأمريكي على التصميم المبدئي المقدم من شركة «جنرال ديناميكس لاند سيستم»، في مايو 2024، والذي بموجبه يجب على الشركة أن تنتهي من التصميم النهائي في غضون ثمانية عشر شهراً، وسوف تخضع الدبابة الجديدة للتطوير مقارنة بالجيل السابق عليها في ثلاث مجالات رئيسية، وهي تخفيف وزنها، ورفع كفاءة استهلاكها للوقود، فضلاً عن توظيف نظم الذكاء الاصطناعي.
تخفيف الوزن وزيادة قابلية النشر
وفيما يتعلق بتخفيف الوزن، يلاحظ أن وزن الدبابة بلغ في بداية الحرب العالمية الثانية في عام 1940 حوالي 5 طن، أما اليوم، فإن الدبابة إبرامز من طراز «أم 1 آي 2» يصل وزنها إلى 70 طن، وهو ما يؤهل الدبابة من أن تحمل كمية هائلة من القوة النارية، فضلاً عن امتلاكها لدروع ثقيلة لحمايتها من النيران المعادية، ومع ذلك، فإن هذا الوزن الثقيل يحمل معه تحديات كبيرة، إذ أن المركبات الثقيلة تُتلف الطرق المعبدة، وتعلق في الطين، ويصعب نقلها إلى ساحة المعركة إلا باستخدام طائرات وسفن الشحن العملاقة، والتي لا تتوفر بأعداد كبيرة، ولذلك أكد اللواء جلين دين، المدير التنفيذي لبرنامج الأنظمة القتالية الأرضية في الجيش الأمريكي، عام 2023: «أن هناك حاجة إلى تقليص البصمة اللوجستية للدبابة أبرامز» وبالتالي، فإن دبابات القتال الرئيسية من الجيل القادم ستحتاج إلى أن تتمتع بقابلية نشر استراتيجية أعلى، إلى جانب قدرتها على البقاء التكتيكي في ساحة المعركة، وهذا يعني أنها ستكون أخف وزناً، وهو ما يساعد على إمكانية نقلها جوّاً وبحراً وبراً بسرعة.

ولذلك فإنه يتوقع أن يكون وزن الدبابة «أم 1 إيه 3 أبرامز» أقل بحوالي 10 طن مقارنة بـ «إبرامز أم 1»، كما يمكن رصد نفس الاتجاه في دبابات حديثة، مثل «كي 2 بلاك بانثر» الكورية الجنوبية و«تايب 10» (Type 10) اليابانية، إذ يتراوح وزنهما بين 50 و55 طناً، ومن المرجح أن تُسهم تقنيات المحركات الحديثة في تقليص الوزن أكثر في التصاميم المستقبلية.
ويتوقع كذلك أن تمتلك الدبابة الأمريكية الجديدة نظام التلقيم الآلي، وهو الأمر الذي سيُتيح تشغيل الدبابة بواسطة طاقم مكون من ثلاثة أفراد فقط، بدلاً من أربعة كما هو الحال في النسخ الحالية من «أبرامز» ويوفر المدفع الرئيسي ذو التلقيم الآلي، إلى جانب تقليص عدد الطاقم، فرصة لإجراء تغييرات جوهرية على البنية الداخلية والخارجية للدبابة، لا سيما فيما يتعلق بالبرج، مما قد يسهم في تقليل وزن الدبابة كذلك.
تحسين كفاءة استهلاك الوقود:
أما النقطة الثانية، فهي تحسين كفاءة استهلاك الوقود، إذ أن أحد أوجه ضعف الدبابات هي ارتفاع استهلاكها للوقود، ففي الحروب التاريخية السابقة، حققت العديد من الهجمات العسكرية باستخدام الدبابات، في مراحلها الأولى، نجاحاً مذهلاً، مثل الهجوم الألماني ضد روسيا، لكنها سرعان ما توقفت بعد نفاد وقود الدبابات، ومع ازدياد وزن الدبابات على مدار القرن الماضي، تزايد معها استهلاكها للوقود، وتُعدّ دبابة «إم1 أبرامز» نموذجاً صارخاً لهذا النوع من المركبات؛ فهي تستهلك 3 غالونات لكل ميل. وهذا يُشكل عبئاً حتى على الجيش الأمريكي على الرغم من نظامه اللوجستي المتقدم، كما أن شاحنات الوقود عرضة للهجمات، وتعيق المستنقعات والتضاريس الوعرة حركة قوافل الإمداد بصورة أكبر. وتتمثل أحد الحلول لهذه المشكلة في استخدام المحركات الهجينة، التي تجمع بين محركين ديزل وكهربائي مزوَّد ببطاريات. ويقدم هذا الحل مزايا عديدة، مثل تحسين معدل استهلاك الوقود مقارنة بالمحركات التقليدية، فضلاً عن تقليص الأعطال الميكانيكية، وانخفاض الضوضاء مما يقلل من فرصة كشف العدو للدبابة، كما يسهم في تقليل الوزن الإجمالي للمركبة، وكشفت شركة «جنرال دايناميكس» عن أن أحد الأطرزة التجريبية الأولية للدبابة إبرامز، والسابق على النموذج الجديد المعتمد من الجيش الأمريكي «أم 1 إيه 3 أبرامز» يستهلك حوالي جالون واحد لقطع مسافة تقل قليلاً عن واحد ميل، ولذا من المتوقع أن تستهلك الدبابة الجديدة مقدر أقل من الطاقة.
دمج الذكاء الاصطناعي
أما ثالث هذه التحديثات، فيتمثل في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، إذ أنه من المتوقع أن يتم إمداد النسخة الجديدة من الدبابة إبرامز بنظم ذكاء اصطناعي تساعدها على رصد الأخطار البعيدة، وتنبيه طاقمها من الجنود إلى وجود دبابة أو طائرة مسيرة معادية على بُعد عدة أميال. كما تستطيع الدبابة التواصل مع الطائرات المسيرة، والتي قد يتم تكليفها بمهام استطلاع التهديدات المسبقة. وبذلك، تُشبه «أم 1 إيه 3 أبرامز» المقاتلة متعددة المهام «إف-35»، التي تُركز على الوعي الميداني والربط الشبكي مع الأصول العسكرية الأخرى في ساحة المعركة، ويلاحظ أن الحاجة لتأمين الدبابة من تهديدات الدبابات الأخرى، أو الطائرات المسيرة قد برز بصورة أساسية من المعارك الجارية بين روسيا وأوكرانيا، وتمكن الجيش الروسي من توظيف الطائرات المسيرة من طراز «لانسيت» في تدمير أو إعطاب الدبابات الغربية.
الرؤية الروسية لدبابات المستقبل
كشفت إيغور ميشكوف، عضو مجلس إدارة شركة «أورال فاغون زافود» التابعة لمؤسسة «روستيخ»، إحدى أهم الشركات العاملة في مجال تصنيع الدبابات للجيش الروسي، في مارس 2025، عن تصوره للدبابات الروسية المستقبلية، والتي سوف تكون مجهزة لمواجهة تحديات ميدان القتال الجديدة، فقد أكد ميشكوف، في البداية، إلى أن الدبابات سوف تظل سلاح رئيسي ومحوري في المواجهات العسكرية المستقبلية بسبب قوة النيران المباشرة التي توجهها ضد قوات العدو، غير أنها باتت تواجه تحديات أكبر بكثير، والتي تتمثل أبرزها في الأسلحة المضادة للدبابات، ونيران المدفعية، والتهديدات الجوية، مثل الطائرات المسيرة الانتحارية، والنظم المسيرة التي يتم توجيهها بالذكاء الاصطناعي، ويرجع ذلك إلى حقيقة تكبد الجيش الروسي لخسائر في الدبابات بسبب الصواريخ المضادة، وكذلك الطائرات المسيرة أثناء الحرب الروسية – الأوكرانية.
ويلاحظ أن ميشكوف يطرح تصوراً أكثر طموحاً، إذ أنه يتصور أن تعمل الدبابات المستقبلية من دون طاقم وستزود بأسلحة أقوى وحماية معززة متعددة المستويات، كما ستتمتع المركبة بقدرة عالية على المناورة، والسير على جميع التضاريس، بالإضافة إلى تجهيزها بمدفع قوي، وبرج دوار. وليس من الواضح ما إذا كانت روسيا تعمل حالياً على تطوير مثل هذا النموذج حالياً أم لا، ولكن من المؤكد أن الكثير من التكنولوجيات التي كشف عنها ميشكوف قد بدأ تطويرها بالفعل للاستخدام المحتمل في ميدان الحرب الروسية – الأوكرانية.
التجريب العملي والتسليح الثقيل
فقد تم تداول أخباراً من أواخر عام 2024، عن قيام شركة «أورالفاغونزافود الروسية باختبار دبابة «شتورم المسيرة» بالفعل، والمبنية على هيكل الدبابة الروسية «تي -72 بي 3»، وذلك بهدف نشرها على الجبهة الأوكرانية، ويتضمّن برنامج الاختبار تدريبات بالذخيرة الحية ضد أهداف معادية في سيناريوهات متعددة، مع التركيز على استخدام مدفع الدبابة عيار 125 ملم، وتحسين قدراته التشغيلية الذاتية، كما أن الدبابة مزودة بقاذف اللهب الصاروخي من طراز «أر بي أو – 2 شميل-إم»، ومدافع أوتوماتيكية عيار 30 ملم، وصواريخ حرارية غير موجهة بقطر 220 ملم مأخوذة من نظام القاذف الثقيل «توس 1 آي سولنتسيبيوك». ومن جهة أخرى، فإن روسيا تجري بالتوازي تحديثات مستمرة على الدبابات القديمة التي تمتلكها، ومن ذلك على سبيل المثال، إمداد الدبابة «تي 72»، بنظام الحماية النشط «أرينا أم»، والذي طوّرته الصناعة الدفاعية الروسية لمواجهة التهديدات الحديثة المضادة للدبابات، فهي منظومة مصممة لكشف وتتبع وتدمير المقذوفات القادمة قبل أن تصيب المركبة، ويستخدم النظام أجهزة استشعار تعتمد على الرادار، إلى جانب تدابير مضادة مؤتمتة، لشلّ فعالية الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات وغيرها من المقذوفات عالية السرعة على المدى القريب، يعني ما سبق أن روسيا بدأت بالفعل في تجريب تكنولوجيات متطورة في أسطولها الحالي من الدبابات.
المشروع الأوروبي لدبابات الجيل الخامس
مبادرة (FMBTech) الطموحة:
أعلنت شركة «تاليس» الفرنسية عن إطلاق مشروع تطوير «تقنيات دبابات القتال الرئيسية الحالية والمستقبلية» (FMBTech)، وهو مبادرة طموحة تهدف إلى تعزيز وتحديث أنظمة دبابات القتال الرئيسية لمواكبة متطلبات ميادين القتال الحديثة والمستقبلية، وتقود هذه المبادرة الأوروبية النوعية شركة تاليس، وتجمع ائتلافاً قوياً يضم 26 شريكاً بارزاً من قادة الصناعة ومراكز البحوث من 13 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى النرويج، ويطمح المشروع إلى تمهيد الطريق لتطوير قدرات دبابات القتال الرئيسية من الجيل الخامس، مما يعزز التفوق التكنولوجي الأوروبي في هذا المجال الحيوي.
تطوير أنظمة فرعية قابلة للدمج:
ويلاحظ أن المشروع الأوروبي يسعى لتطوير «أنظمة فرعية جديدة»، تتسم بالقابلية للتكيّف والتطبيق على نطاق واسع على دبابات قتالية من أطرزة مختلفة، بحيث يمكن دمجها بسلاسة في الدبابات القائمة مثل «ليوبارد 2» الألمانية، و»لوكليرك» الفرنسية، وذلك إلى جانب كون هذه الأنظمة الفرعية ستشكل معاً أساساً لتطوير دبابات جديدة كلياً يُتوقع ظهورها في الفترة التالية على العام 2035.
وستغطي هذه الأنظمة الفرعية الجديدة مجالات تشغيلية متعددة، بما في ذلك أنظمة الحماية من الجيل القادم، والوعي الميداني المعزز المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وشبكات الاتصالات الحديثة، ودفاع إلكتروني متقدم، ومن خلال الاستفادة من هذه القدرات، يهدف المشروع الأوروبي الجديد إلى ضمان قدرة دبابات القتال الرئيسية المستقبلية على العمل بفعالية ضمن بيئات شديدة التعقيد، ويشمل ذلك التكامل مع العمليات متعددة المجالات والتوافق الكامل مع البنى التحتية الرقمية للقيادة والسيطرة، إذ تهدف المبادرة إلى تحويل دبابة القتال الرئيسية إلى ضلع أساسي ضمن منظومات عسكرية ذات قدرات رقمية متكاملة، وذلك من خلال تعزيز التفاعل بين الدبابة والأنظمة المسيرة، فضلاً عن تحسين كفاءة الطاقم عبر دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ولعل ما يجعل المشروع الأوروبي لدبابات المستقبل واعداً هو أنه يضم شركات دفاعية أوروبية رئيسية مثل الشركة الفرنسية «كن دي إس»، و«أركووس»، و»إم بي دي إي الفرنسية»، و«سافران للإلكترونيات والدفاع»، إلى جانب مطوّري تقنيات الاستشعار والاتصالات المتقدمة مثل «هينسولد الفرنسية»، كما أن المشروع يتسم بأهمية كذلك نظراً لأنه يساهم في تأكيد الاستقلالية الدفاعية لأوروبا، ويهدف إلى إنتاج أنظمة فرعية يمكن أن يتم استخدامها في الدبابات القتالية الحالية الموجودة لدى الدول الأوروبية على اختلافها، بالإضافة إلى وضع نواة لدبابة أوروبية مشتركة.

قواسم مشتركة بين البرامج الدولية
يلاحظ أن برامج تحديث دبابات القتال الرئيسية لكل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي قد ارتبطت بشكل رئيسي بالحرب الروسية – الأوكرانية، خاصة في ظل ما واجهته الدبابات من تحديات هائلة، سواء تمثل ذلك في الصواريخ المضادة للدبابات، أو الطائرات المسيرة. ومن جهة ثانية، فإن الملامح الأساسية لتطوير الدبابات تبدو واحدة، إذ أنها جميعها يرتكز على تطوير طبقات متعددة من الحماية للدبابات، ومحاولة دمج الذكاء الاصطناعي في الدبابات الحديثة، خاصة تعزيز قدرتها على رصد التهديدات التي قد تعترضها، بالإضافة إلى التشبيك بين الدبابة والطائرات المسيرة وغيرها من المنظومات القتالية بهدف تعزيز فاعلية الدبابة في ميدان القتال، والحد من فرص تدميرها ومن جهة ثالثة، يمكن القول إن الولايات المتحدة تمتلك رؤية كاملة وشاملة للتطوير مقارنة بالرؤية الروسية، والمشروع الأوروبي، ومع ذلك، فإن روسيا بدأت بالفعل في تطبيق رؤيتها من خلال إمداد الدبابة الروسية «تي 72» بأنظمة تجعلها دبابة مسيرة.
الخاتمة
يمكن القول إن الحروب سوف تمثل عنصراً دافعاً للابتكار والتطوير، خاصة وأنه خلال مسار الحرب الروسية – الأوكرانية، تمكن طرفي الحرب، أي موسكو من جانب، وكييف، وحلفائها من الدول الغربية من جانب أخر، من الاستيلاء على دبابات يملكها الطرف الأخر، والقيام بالهندسة العكسية عليها، بهدف دراستها والاستفادة من نقاط القوة التي تتمتع بها، ولاشك أن مثل هذه الجهود سوف تؤثر على عمليات التطوير اللاحقة لدبابات المستقبل، وعلى الرغم من أن التوسع في استخدام الطائرات المسيرة لاستهداف الدبابات قد دفع بعض المحللين إلى التشكيك في جدوى الاعتماد على الدبابات في الحروب المستقبلية، فإن جهود التطوير القائمة من جانب الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي تكشف في النهاية أن الدبابات ستظل سلاح رئيسي لا غنى عنه في حروب المستقبل.●
إعداد د. شادي عبدالوهاب منصور (أستاذ مشارك في كلية الدفاع الوطني)









