تمثل التهديدات الهجينة (Hybrid Threats) تحدياً أمنياً حقيقياً للمؤسسات العسكرية في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ويرى المحللون أنها ستكون أحد أهم التحديات في العقود القادمة. بطبيعتها غير النمطية، تجمع تلك التهديدات القوة القتالية غير النظامية مع بعض القدرات التي تمتلكها الجيوش المتقدمة ومن المتوقع أن تلعب دوراً متزايداً في قضايا الأمن الدولي.
على الرغم من أنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً للتهديدات الهجينة، إذ يختلف مفهومها تبعاً للسياق الذي تُستخدم فيه والدراسات التي تناولتها، وهناك تعريفات شائعة تقدمها جهات أكاديمية وعسكرية توضح طبيعتها. بينما تميل الدراسات الصادرة عن كلية الحرب للجيش الأمريكي إلى تعريفها بأنها مزيج ديناميكي من القوات النظامية وغير النظامية والعناصر الخارجة عن القانون، تعمل تلك العناصر مجتمعة لتحقيق أهداف مشتركة.
في ربيع 2012، نشرت دورية Parameters التي تصدرها كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي مقالاً بعنوان «Identifying Emerging Hybrid Adversaries»، قدم هذا المقال منهجيةً تهدف إلى تسهيل التعرف على التهديدات الهجينة الناشئة، بالتركيز على الفهم الحالي لهذه التهديدات وقدراتها، مع التركيز على ثلاثة متغيرات رئيسية: النضج التنظيمي، القدرات العملياتية، وتعقيد التضاريس. وتُبرز المنهجية منطقةَ التقاطع بين هذه المتغيرات الثلاثة، والتي أسماها «نقطة التوازن»، حيث تصل التهديدات الهجينة إلى أقصى مستويات الكفاءة التكتيكية والاستراتيجية. من خلال تطبيق هذه المتغيرات على تهديد محتمل، يمكن تقييم قدرة منظمة ما على التحول إلى تهديد هجين ناضج قادر على التنفيذ، كذلك يمكن تحديد الظروف التي تساعد على هذا التطور أو تعيقه.
تتميز التهديدات الهجينة بخصائص فريدة تجعلها واحدة من أبرز التحديات الأمنية المعاصرة، نظراً لجمعها بين الأساليب التقليدية وغير التقليدية، مثل العمليات العسكرية التقليدية، الهجمات السيبرانية، الدعاية الإعلامية، استخدام القوات غير النظامية أو الميليشيات، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية والعمليات النفسية. تتسم هذه التهديدات بالغموض والإنكار، إذ يصعب تحديد الجهات المسؤولة عنها، مما يعقد عملية الرد عليها. كما أنها تستهدف مستويات متعددة في الدولة، مثل الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبنية التحتية. تعتمد التهديدات الهجينة على استغلال نقاط الضعف لدى الخصوم، سواء من خلال استهداف التكنولوجيا أو الثغرات الأمنية أو التأثير على الرأي العام باستخدام التضليل الإعلامي. هذا المزيج من الأدوات والأساليب يمنح المنفذين القدرةَ على تحقيق أهدافهم دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة. يفرض هذا الأمر على الدول والتحالفات تعزيز قدراتها في مختلف المجالات للتصدي لتلك التهديدات ومحاولة الاستشراف والتنبؤ الاحترازي.
القدرات
لا تظهر التهديدات الهجينة فجأة، بل تمر بعملية تطور تدريجي تنطوي على نضج تنظيمي وقدرات متقدمة، وتزدهر في بيئة معقدة متعددة الأبعاد. تعتمد هذه التهديدات على تحقيق تكامل بين العناصر العسكرية وغير العسكرية، مثل التقنية المتطورة، والشبكات التنظيمية المرنة، والتكتيكات السيبرانية والدعائية، وهذا يعزز قدرتها على التكيف مع التغيرات. وفقاً لدراسات عديدة، تتطلب هذه التهديدات -لبقائها- قدراتٍ تنظيمية عالية تشمل التدريب المستمر، والتمويل المستدام، والدعم اللوجستي، فضلاً عن الاستفادة من الفجوات الأمنية في البنية التحتية للدول المستهدفة. كما أشار الباحثون إلى أن هذه التهديدات غالباً ما تحتاج إلى رعاية دولة أو تنظيمات ذات موارد كبيرة لضمان استمرار تطورها. يُبرز ذلك أهمية مراقبة الأنماط والسلوكيات التي تشير إلى نمو التهديدات الهجينة، مما يتيح التنبؤ بها والحد من تأثيرها قبل أن تصل إلى مراحل متقدمة. ومن الأمثلة على ذلك قيام الروس باستخدام استراتيجية هجينة في أوكرانيا تضمنت دعم الانفصاليين في شرق البلاد، وشن هجمات إلكترونية لتعطيل البنية التحتية، واستخدام حملات تضليل إعلامي لزعزعة استقرار الحكومة الأوكرانية. كما تم الاعتماد على القوات غير النظامية، مثل الميليشيات، لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية دون تدخل عسكري مباشر. وقام الروس قبل ذلك -خلال الأزمة مع جورجيا عام 2008 باستخدام مزيج من الأساليب التقليدية (العمليات العسكرية) وغير التقليدية (الدعاية والهجمات الإلكترونية) لإضعاف الحكومة الجورجية وفرض سيطرتها على المناطق الانفصالية.
إن امتلاك التهديدات الهجينة لمزيج من القدرات التي سبقت الإشارة لها، يضعها في موقع متوسط بين الجيوش الحديثة ذات التقنيات المتقدمة والقوات المتمردة التي تتبنى تكتيكات غير تقليدية. فمن جهة تجمع بين عناصر تقليدية، مثل استخدام الأسلحة المتطورة والتدريب المنظم، وبين عناصر الحروب غير التقليدية، كالهجمات السيبرانية والدعاية الإعلامية وتكتيكات الكر والفر. هذه القدرات تجعل التهديدات الهجينة معقدة للغاية بالنسبة للجيوش المتقدمة، حيث تواجه الأخيرة صعوبة في التصدي لتكتيكات تتصف بالمرونة وتعدد الأبعاد بما يتجاوز الحدود التقليدية للحروب. يضاف إلى ما تقدم، اعتماد تلك التهديدات على استغلال نقاط الضعف في البنية التحتية والأنظمة الأمنية للدول المستهدفة. هذا المزيج يجعل التهديدات الهجينة قادرة على تحدي أقوى الجيوش بطرق غير تقليدية يصعب التنبؤ بها أو مواجهتها بالوسائل التقليدية فقط. الأمر الذي يتطلب من الجيوش المتقدمة تطوير استراتيجيات شاملة تعزز التكامل بين القدرات العسكرية التقليدية والحديثة، إلى جانب تعزيز الدفاعات السيبرانية والاستجابة السريعة للعمليات النفسية والإعلامية.
يعتبر تفهم قدرات التهديدات الهجينة أمراً غاية في الأهمية، يقود عملية تسهيل التعرف وتحديد ما ينبغي التنبه له قبل بروز التهديد الهجين وتحوله من تهديد ناشئ إلى تهديد ناضج. في البداية، هناك حقيقة متفق عليه تتعلق بالقدرات اللازمة للتهديدات الهجينة، فلكي تبرز مجموعة ما كتهديد هجين، يجب أن تمتلك بعضاً من القدرات الحديثة للجيوش النظامية، مثل الأسلحة المتقدمة (مثل الصواريخ المضادة للدبابات وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة)، إضافة إلى التدريب الكافي لاستخدامها بشكل فعال والقدرة على الحفاظ على استدامتها. دون هذه العناصر، تصبح الأسلحة مجرد «حدث» وليست «قدرة». يدخل في ذلك خطورة وصول التهديدات الهجينة إلى أسلحة متقدمة من ضمنها أسلحة الدمار الشامل (WMDs) في حالات انهيار الدول، وقد يؤدي امتلاكها إلى ردود فعل عسكرية قوية من المجتمع الدولي. وضمن ما يعرف بالحرب بالوكالة، ينبغي التطرق إلى دور الدولة الراعية في دعم التهديدات الهجينة، ففي معظم الحالات، تحصل التهديدات الهجينة على أسلحتها وتدريبها من خلال دعم دولة راعية تقوم بتقديم الدعم بناءً على مدى فعالية المجموعة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. تعلم الدول الراعية بأن هناك تحدياً في جعل هذه المجموعات قادرة على استخدام الدعم بشكل فعال لجذب المزيد من الدعم من الدولة الراعية. نجد أن إيران، مثلاً، قدمت قدرات متقدمة ودعماً أكبر لحزب الله مقارنة بالمتمردين الشيعة في العراق بسبب الاختلافات في الديناميكيات الداخلية لهذه المنظمات الوكيلة وقدرتها على استخدام الموارد بشكل فعال. لذلك تفضل الدول الراعية كإيران، الاستثمار في وكلاء يمكنهم تحقيق الأهداف الاستراتيجية بشكل موثوق. ومن الطبيعي أن تؤثر الضغوط الخارجية على الدولة الراعية على مستوى الدعم المقدم. ولكي تجذب المجموعة الوكيلة رعايةً كبيرةً من الدولة، يجب أن تُظهر نضجاً تنظيمياً وقدرة على جعل هذا الاستثمار مجدياً.
درجة النضج
لا بد أن تتصف المجموعة المحتمل تشكيلها تهديداً هجيناً بدرجةٍ عاليةٍ من النضج واتصافها بدرجة من التنظيم والتماسك، توفر عنصر القيادة الفاعلة والسيطرة والاستجابة للقيادة الداخلية والدول الراعية، دعم السكان، ووجود استراتيجية فعالة موجهة نحو تحقيق أهداف محددة. مع زيادة النضج يزداد احتمال تحول المجموعات من عصابات إجرامية أو ميليشيات إلى قوات حرب عصابات أو تمرد قادرة على العمل بشكل مؤثر. أما تأثير الأيدولوجيا، فعلى الرغم من أهمية الدافع الأيديولوجي في تطوير مستوى نضج المجموعة، فإن التشدد في الالتزام بالأيديولوجيا قد يعيق النضج. من شأن الأيديولوجيات المتطرفة أن تتسبب في إعاقة المجموعة من تحقيق درجة كافية من البراغماتية، وهذا يؤثر سلباً على الدعم المقدم من الدول الراعية. فالأيدلوجية المتطرفة التي تتبناها بعض التنظيمات كتنظيم القاعدة تجعله غير قابل للسيطرة، مما يحد من قدرته على جذب دعم دولي. تستغل المجموعات الهجينة فترة الراحة بين الصراعات لتعزيز نضجها وتعميق قيادتها، وتقوية تنظيمها، وتدريب أعضائها، وربما قامت باستغلال تلك الفترات لتنفيذ أنشطة غير نظامية أو إرهابية لإشعار المجتمعات بأهمية المجموعة. قد تتفكك المجموعات بفعل صراعاتها الداخلية إذا كانت غير ناضجة، كما حدث في الشيشان بعد الحرب الأولى (1994-1996)، حيث نشبت تلك الصراعات مباشرة بعد انتهاء الحرب بفعل الاختلافات الأيدلوجية بين القوميين والإسلاميين والتدخلات الخارجية إضافة للوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب. وعند نجاح الحركة الشعبية لتحرير السودان في تحقيق استقلال جنوب السودان عام 2011، تحولت من مجموعة متمردة إلى الجيش الوطني لدولة جنوب السودان، ثم ما لبثت إلا قليلاً، فتفاقمت الخلافات الداخلية فيها، ما أدى إلى صراعات داخلية وانقسامات أثرت على استقرار الدولة الوليدة، وانتهى الأمر بتفككها إلى ميليشيات متصارعة وانزلاق البلاد إلى حرب أهلية. والخلاصة أنه لا بد لقيادة المجموعة أن يكون لديها استراتيجية واضحة موجهة نحو أهداف معروفة.
التضاريس المعقدة
تُعد تعقيدات التضاريس الجغرافية والبشرية عاملاً رئيسياً لنجاح التهديدات الهجينة في مواجهة الجيوش الحديثة، حيث توفر التضاريس المعقدة ملاذاً آمناً وتحد من قدرة الجيوش الحديثة على الاستهداف الفعال. في عملية «الرصاص المصبوب» في غزة عام 2008، استخدم الجيش الإسرائيلي استراتيجية مستندة إلى استغلال التضاريس الحضرية لعزل مقاتلي حماس في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، مما قلل من فعاليتها التشغيلية وأضعف قدراتها على استخدام تكتيكاتها المعتادة. لم تساهم المناطق الحضرية المعقدة في تقليل قدرة المقاتلين على التواصل ونقل الإمدادات فقط، بل أوجدت عقبات طبيعية أمام قدرة قيادة حركة حماس على تنظيم العمليات القتالية بشكل فعال.
تساهم التضاريس البشرية وتعقيداتها خاصة عندما تكون المجتمعات، البيئة البشرية، مليئة بالتنوع الثقافي والاجتماعي، في توفير الدعم الشعبي، إما من خلال الإقناع وإما استغلال التوترات الاجتماعية والثقافية، والتجنيد، باستغلال الفئات المهمشة أو المستضعفة، والدعاية والتأثير الإعلامي بنشر سردياتها الدعائية الموجهة لفئات معينة أو لتعزيز الانقسامات. تعتمد التهديدات الهجينة على التضاريس المعقدة للعمل بشكل دفاعي، ودون هذه التضاريس، تفقد المجموعات مزاياها التكتيكية وتصبح أقل فعالية. خلال حرب فيتنام، استخدم الفيتكونغ تضاريس الغابات بشكل فعال لنصب الكمائن وإدارة حرب عصابات ناجحة ضد القوات الأمريكية. تحتاج المجموعات الهجينة لتحقيق التوازن في التعقيد في التضاريس البشرية بما يكفي لتوفير الدعم الشعبي والمزايا الدفاعية.
نقطة التوازن
تتداخل المتغيرات الثلاثة، القدرات ودرجة النضج والتضاريس المعقدة، في تشكيل التهديد الهجين، وإذا افتقدت المجموعة مكونات هذه المتغيرات أو تجاوزتها، فلا يمكن اعتبارها تشكل تهديداً هجيناً كامل الأركان. تلتقي المتغيرات المختلفة في منطقة التقاطع بينها، والتي يمكن تسميتها «نقطة التوازن» Sweet Spot، فإذا ما أُريد توقعُ التهديد الهجين، وجب التفطن لتلك النقاط التي تجمع المتغيرات الثلاثة. ستساعد دراسة نقاط الالتقاء، نقاط التوازن، تلك على التنبؤ بالمجموعات التي قد تتحول من تهديدات هجينة ناشئة إلى تهديدات هجينة ناضجة. وبالتالي يمكن توجيه الجهود لمنعها من الوصول إلى ما يمكنها من تنفيذ أهدافها من خلال تقويض نضجها وتعطيل تراكم قدراتها. يمكن أيضاً زيادة تعقيد التضاريس البشرية عن طريق دعم منافسين مناوئين لتلك المجموعات وأقوياء داخل المجتمع.
الختام
ينبغي تبني استراتيجيات منع التهديد الهجين، فمن الواجب على الجيوش الحديثة الاتصاف بالقدرة المرنة، فرغم كون التهديدات الهجينة ليست بالضرورة أكثر خطورة من غيرها، فإنها تستفيد من مفاجأة الخصوم غير المستعدين. الجيوش التي تمتلك قدرات متعددة، بما في ذلك القدرات التقليدية ومكافحة التمرد، تكون أكثر استعداداً لمواجهة التهديدات الهجينة. ولا يتحقق تبني نهج الحرب الهجينة إلا بتحقيق التوازن بين القدرات التقليدية وغير التقليدية مع عدم اغفال صعوبة في دمج التكتيكات غير التقليدية مع عملياتها العسكرية التقليدية التي يمكن أن تواجه الجيوش الحديثة.
اللواء المتقاعد/ خالد السميطي