الموضوع الديني استراحة الجندي

معارك خلدها التاريخ.. معركة القادسية

شهد التاريخ عدة غزوات وحروب، كانت نتائجها حاسمة في تغيير مجراه، وسنتناول على صفحات الجندي بعضاً من هذه المعارك الفاصلة.

معركة القادسية

وقعت في 15هـ، بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، والفرس بقيادة رستم في القادسية، انتهت بانتصار المسلمين ومقتل رستم. وكان تعداد جيش المسلمين 30.000 مقاتل، وتعداد جيش الفرس 200.000 مقاتل.

أسباب المعركة

كان الصِّدام العسكري بين المسلمين والفُرس قد قطع شوطاً في جبهة العراق في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر، لكنَّه لم يبلغْ مرحلةَ اللِّقاء العسكري الحاسم بين الطرفَين، فانتصار المسلمين في معركة البويب لم يُنهِ الوجودَ السياسي والعسكري للفُرْس في العراق، ويمكِّن الدعوة الإسلامية أن تشقَّ طريقَها إلى الناس في العراق بأمْن وسلام. فكان لا بدَّ مِن لقاء عسكري حاسِم يُنهي الوجود السياسي والعسكري للفُرْس ويجعل العراقَ دار إسلام، وأمْن وسلام، فكانتْ معركة «القادسية» ذلك اللِّقاء العسكري الحاسم.

وفي عام 14 هـ جمع يزدجرد ملك الفُرس طاقاته ضد المسلمين، فبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني فكتب إلى عمر بن الخطاب، فأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق، واجتمع الناس بالمدينة المنورة، فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق، والناس لا يدرون ما يريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه، فقرروا أن يبعث على رأس الجيش رجلاً من أصحاب الرسول، ويقيم هو ولا يخرج، واستشارهم في من يقود الجيش، فأشير إليه بسعد بن أبي وقاص.

المسير إلى القادسية

استدعى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص، فولاه الجيش، وأمره بالسير ومعه أربعة آلاف، ثم أمده بألفي يماني وألفي نجديّ، وكان مع المثنى ثمانية آلاف، ومات المثنى قبل وصول سعد، وتتابعت الإمدادات حتى صار مع سعد ثلاثون ألفاً، فنظم الجيش، وجعل خليفته إذا استشهد خالد بن عرفطة.

أما الفرس، فقد أجبر ملك الفرس يزدجرد، رستم على قيادة الجيش الفارسي بنفسه، وسار رستم حتى وصل الحيرة، ثم النجف، حتى وصل القادسية، ومعه سبعون فيلاً.

المفاوضات بين المسلمين والفرس

بعث سعْد بن أبي وقاص إلى ملك الفرس يزدجرد وفداً يدعوه إلى الإسلام، سار الوفد الإسلامي من القادسية، ووصل الوفد إلى المدائن، فالْتقى بقادة الفُرْس، وتحدَّث إليهم، فعَرَض عليهم الإسلام ودعاهم إليه بلين ولطف، وبيَّن لهم فضلَ الإسلام ورحمته بالناس، وعدلـه وإنصافه، فقال: فنحن ندعوكم إلى دِيننا، وهو دين حسَّـن الحَسَن، وقبَّح القُبْح كلَّه، فإن أجبتم إليه خلَّفْنا فيكم كتابَ الله، على أن تَحْكُموا بأحكامه، ونَرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فالقتال.

اعتقد يزدجرد أنَّ حُسن أدب الوفد الإسلامي، وملاطفته في المناظرة دليلٌ على ضعْف المسلمين، فتطاول عليهم وأَخَذ يُذكِّرهم بحياتهم قبلَ الإسلام، وينعتهم بأنهم مِن أشْقَى الأمم، وأقلها عدداً، وأضعفها شأناً، وأسوأها حالاً، فتصدَّى له المغيرة بن زرارة، فقال: يا هذا، إنك وصفْتَنا صِفةً لم تكن بها عالِماً، فتحدَّث المغيرة عن حال العَرَب قبل دخولهم في الإسلام وما كانوا عليه، من ضلال وفُرْقة وذِلَّة، إلا أنَّ الله قد أبدلَ حالهم بالإسلام، فأصبحوا من أفضلِ الأمم عقيدةً، وأحسن الناس خُلقاً، تألَّفت قلوبهم، فاجتمعت كلمتُهم، واستقامتْ حالهم، وعزَّ جانبهم، ثم قال: إنَّ الله ورسوله أمَرنا أن ندعوَ مَن يلوننا من الأمم إلى الإسلام، فاخترْ إن شئت أن تُسلِمَ فتنجى نفسك، أو تُعطيَ الجزية عن يدٍ وأنت صاغِر، أو السيف، فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟! قال: ما استقبلتُ إلا مَن كلَّمني، ولو كلَّمني غيرُك ما استقبلتُك به، فغضب يزدجرد، وأخذتْه العِزَّة بالإثم، وكان سيِّئ الأدب، ضيقاً لجوجاً، لا يأخذ برأي ولا مشورة، فأمر الوفد بالانصراف، وقال: لولا أنكم رسلٌ لقتلتُكم.

تتابعتْ رسلُ سعد بن أبي وقَّاص على رستم، وكانوا على نَسَق واحد في صِدْق المقالة، ووضوح العبارة، وبلوغ الهدف، فقد دَعَوُا القوم إلى الإسلام، وقالوا لهم: فوالله، لإسلامُكم أحبُّ إلينا من غنائمكم، غير أنَّ رستم أراد مطاولةَ سعد في اللِّقاء، فأرسل إليه يطلب رسولاً آخر، فأرسل إليه سعدٌ المغيرةَ بن شُعْبة، فلمَّا وصل المغيرة تحدَّث إلى رستم مؤكِّداً مقالة مَن سبقه مِن رسل المسلمين، فاعتقد رستم أنَّ المسألة يمكن أن تُسوَّى بالمال، فتصدَّى له المغيرةُ، وحسم المسألة بقولـه: إنَّ الله بعث إلينا نبيه فسعِدْنا بإجابته واتباعه، وأمَرَنا بجهاد مَن خالف أمرَنا، وأخبرنا أنَّ مَن قُتِل منا على دينه فله الجنة، ومَن عاش مَلَك وظَهَر على مَن خالفه، ونحن ندعوك أن تؤمن بالله وبرسوله وتدخل في دِيننا، فإن فعلتَ كانتْ لكم بلادكم، ولا يدخل عليكم فيها أحدٌ إلا مَن أحببتم، وإن أبيتَ ذلك، فالجزية عن يَدٍ وأنت صاغِر، وإن أبيت فالسيف بيننا وبينكم، والإسلامُ أحبُّ إلينا منهما، فاستشاط رستم غضباً، وقال: لا صُلح بيننا وبينكم، فأصبح اللِّقاءُ العسكريُّ بين المسلمين والفرْس أمراً لا مفرَّ منه.

القتال

عبر الفُرْس النهر في الصباح، ونظموا جيشهم، ونظم سعد جيشه، وحثهم على السمع والطاعة لنائبه خالد بن عرفطة، لأن سعداً أصابته دمامل في فخذيه، فكان ينام على وجهه وفي صدره وسادة، وصلى المسلمون الظهر وكبر سعد التكبيرة الأولى فاستعدوا، وكبر الثانية فلبسوا عدتهم، وكبر الثالثة فنشط الفرسان، وكبر الرابعة فزحف الجميع، وبدأ القتال والتلاحم.

ولما رأت خيل المسلمين الفيلة نفرت وركز الفُرْس بـ(17) فيلاً على قبيلة بجيلة، فكادت تهلك، فأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة، فأبلوا بلاء حسناً، وردوا عنهم هجمة الفيلة، ولكن الفيلة عادت للفتك بقبيلة أسد، فنادى سعد عاصم بن عمرو التميمي ليصنع شيئاً بالفيلة، فأخذ رجالاً من قومه فقطعوا حبال التوابيت التي توضع على الفيلة فارتفع عواؤها، فما بقي لهم فيل إلا أعري وقتل أصحابه، ونفّس عن قبيلة أسد، واقتتل الفريقان حتى الغروب وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة.

وفي اليوم الثاني أصبح القوم، فوكل سعد بالقتلى والجرحى من ينقلهم، وسلم الجرحى إلى النساء ليقمن عليهم، وفي أثناء ذلك طلعت نواصي الخيل قادمة من الشام، وكان في مقدمتها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، والقعقاع بن عمرو التميمي، وقسم القعقاع جيشه إلى أعشار، وهم ألف فارس، وانطلق أول عشرة ومعهم القعقاع، فلما وصلوا تبعتهم العشرة الثانية وهكذا حتى تكامل وصولهم في المساء، فألقى بهذا الرعب في قلوب الفرس، فقد ظنوا أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فهبطت هممهم ونازل القعقاع (بهمن جاذويه) أول وصوله، فقتله، ولم يَرَ أهل فارس في هذا اليوم شيئاً يعجبهم، فقد أكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتل الفرس بالفيلة في هذا اليوم لأن توابيتها قد تكسرت بالأمس، فاشتغلوا هذا اليوم بإصلاحها، وألبس بعض المسلمين إبلهم، فهي مجللة مبرقعة، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس، يتشبهون بها بالفيلة، ففعلوا بهم هذا اليوم، فجعلت خيل الفرس تفر منها، وقاتلت الفرس حتى انتصف النهار، فلما اعتدل النهار تزاحفوا من جديد حتى انتصف الليل.

أصبح القوم لليوم الثالث، وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن جريح وميت من الفرس عشرة آلاف، فنقل المسلمون شهداءهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وأما قتلى الفرس فبين الصفين لم ينقلوا.

وبات القعقاع لا ينام، فجعل يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس، وقال: إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، ففعلوا ذلك في الصباح، فزاد ذلك في هبوط معنويات الفرس.

وابتدأ القتال في الصباح في هذا اليوم الثالث، والفرس قد أصلحوا التوابيت، فأقبلت الفيلة يحميها الرجالة فنفرت الخيل، ورأى سعد الفيلة عادت لفعلها، كما في اليوم الأول من المعركة، فقال لعاصم بن عمرو والقعقاع: أكفياني الفيل الأبيض، وقال لحمال والربيل: أكفياني الفيل الأجرب، فأخذ الأولان رمحين وتقدما نحو الفيل الأبيض فوضعا رمحيهما في عينيه فنفض رأسه وطرح ساسته ودلى مشفره، فضربه القعقاع فوقع لجنبه، وحمل الآخران على الفيل الأجرب فطعنه حمال في عينه فجلس ثم استوى وضربه الربيل فأبان مشفره فأفلت الأجرب جريحاً وولى وألقى نفسه في النهر واتبعته الفيلة وعدت حتى وصلت المدائن، ثم تزاحف الجيشان، وفي هذه الليلة حمل القعقاع وأخوه عاصم والجيش على الفرس بعد صلاة العشاء، فكان القتال حتى الصباح، وانقطعت الأخبار عن سعد ورستم، فلم ينم الناس تلك الليلة وكان القعقاع محور المعركة.

فلما جاءت الظهيرة كان أول من زال عن مكانه الفيرزان والهرمزان، فانفرج القلب، وأرسل الله ريحاً هوت بسرير رستم، وعلاه الغبار، ووصل القعقاع إلى السرير، فلم يجد رستم الذي هرب واستظل تحت بغل فوقه حمله، فضرب هلال بن علفة الحمل الذي تحته رستم وهو لا يعرف بوجوده، فهرب رستم إلى النهر، فرمى نفسه، ورآه هلال، فتبعه وارتمى عليه فأخرجه من النهر ثم قتله ثم صعد طرف السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة.

فانهارت حينئذٍ معنويات الفرس فانهزموا وعبروا النهر فتبعهم المسلمون يخزونهم برماحهم فسقط من الفرس في النهر ألوفاً.

إعداد: نادر نايف محمد

Instagram
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض