Salah-Al-Din-Name-in-Arabic-Calligraphy

صلاح الدين الأيوبي القائد رحمه الله

القادة العظام في تاريخ الإسلام الجزء (11)

مستأنف حضارة المسلمين في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مؤسس الدولة الأيوبية، العبقري الفذ، الملك اللطيف، العابد المتقي، العادل الشجاع، الكريم السخي، الصابر المحتسب، الحليم العفو، المتواضع الوفي، ناصر السنة وأهلها، سيد حرب والمتفنن في فنونها، لقب بصلاح الدين الأيوبي والملك الناصر، وكنيته أبو المظفر، واسمه يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب الدُويني، رحمه الله ورحم الله قادة المسلمين الأبطال.

كان “رحمه الله” سلطاناً فذاً من سلاطين المسلمين، وقائداً بطلاً من أبطال المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رحمه الله:

1. القائد العابد المتقي:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً مؤمناً تقياً عابداً ذاكراً لربه، مواظباً على صلاة الجماعة، مزكياً لماله، صائماً لشهره، مستمعاً لكتاب ربه وحديث نبيه عليه الصلاة والسلام، معظِّماً لشعائر دينه، محسناً الظن بربه، فيروى أنه كان مواظباً على صلاة الجماعة، وكان إذا مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له ركعات يصليها إذا استيقظ في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح، ولم يكن يترك الصلاة ما دام عقله عليه، ولقد رأيته “رحمه الله” يصلي في مرضه الذي مات فيه قائماً، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى، وأما الزكاة فإنه مات “رحمه الله تعالى” ولم يحفظ ما وجبت به عليه الزكاة، وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ومات، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصيرة، وجراماً واحداً ذهباً صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وكان “رحمه الله” يحب سماع القرآن العظيم، وكان يستقرئ من يحضره في الليل، وهو في برجه، الجزأين والثلاثة والأربعة، وهو يسمع، وكان يستقرئ، في مجلسه العام، من جرت عادته بذلك الآية والعشرين، والزائد على ذلك، ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته، فقربه، وجعل له حظاً من خاص طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جزءاً من مزرعة، وكان “رحمه الله تعالى” رقيق القلب، خاشع الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته، وكان “رحمه الله” شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية، فإنْ كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له، وكان “رحمة الله عليه” كثير التعظيم لشعائر الدين، قائلاً ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار، مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع، منشرحاً بذلك صدره، وكان “رحمه الله” حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه. (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، لبهاء الدين بن شداد، ص: 34-38).

2. القائد العادل الشجاع:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً عادلاً شجاعاً، فكان «يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد، من كبير وصغير، وعجوز هرمة، وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً»، «وكان “رحمه الله” من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، وكان “رحمه الله تعالى” إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد على يده جنيب، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، ويرتب الأطلاب، ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره» (النوادر السلطانية، ص: 41 و50-51)، فكان “رحمه الله” «أشجع الناس وأقواهم بدناً وقلباً مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام» (الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب، 24/452).

3. القائد الكريم السخي:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً كريماً سخياً، فقد ذكر بهاء الدين بن شداد عنه ذلك بقوله: «رأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف، وكان قد عزم على التوجه إلى دمشق، ولم يكن في الخزانة ما يعطى للوفود، فلم أزل أخاطبه في معناهم حتى باع أشياء من بيت المال، وفضضنا ثمنها عليهم، ولم يفضل منه درهم واحد، وكان “رحمه الله” يعطي في وقت الضائقة كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال، حذراً أن يفاجئهم مهم، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، وسمعت منه يوماً يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب، فكأنه أراد بذلك نفسه “رحمه الله تعالى”، وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب، وما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان، وكان يعطي الكثير، ويبسط وجهه للمعطى بسط من لم يعطه شيئاً، وكان “رحمه الله” يعطي، ويكرم أكثر مما يعطي، وكان قد عرفه الناس، فكانوا يستزيدونه في كل وقت، وما سمعته قط يقول: قد زدت مراراً، فكم أزيد؟ وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل منه من كثرة ما يطلبون، ولا أخجل منه من كثير ما أطلبه لهم، لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك، وما خدمه قط أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره» رحمه الله رحمة واسعة (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، لبهاء الدين بن شداد، ص: 47-48).

4. القائد الصابر المحتسب:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً صابراً محتسباً، فقد ذكر بهاء الدين بن شداد عنه ذلك بقوله: «لقد رأيته “رحمه الله” بمرج عكا، وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دمامل، كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون متكئاً على جانبه إذا كان في الخيمة، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرق على الناس، وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو، وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية القتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل، وأنا أتعجب من ذلك، فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل، وهذه عناية ربانية، فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب وإلى أي غاية بلغ هذا الرجل» رحمه الله رحمة واسعة (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، لبهاء الدين بن شداد، ص: 57-59).

5. القائد الحليم العفو:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً حليماً عفواً، قليل الغضب، كثير التغافل، فيذكر أن طراحته كانت «تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص وهو لا يتأثر لذلك، وكان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالبشر والقبول»، (النوادر السلطانية ص: 63 و64)، ويذكر أنه كان «يوماً جالساً فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة (أي بنعل) فأخطأته ووصلت إلى السلطان ووقعت بالقرب منه فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها، وقال القاضي شهاب الدين: نفرت بغلتي يوماً من الجمال وأنا راكب في خدمته، فزحمت ركبته حتى أقلقته من الوجع، وهو يبتسم، وكذلك سرق من خزانته كيسان من الذهب المصري وأبدلا بكيسين من الفلوس فلم يعمل للمباشرين شيئاً سوى صرفهم» (الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب، 24/449).

6. القائد الباني المخلص:

من أهم ملامح قيادته “رحمه الله” أنه كان قائداً بانياً لصروح العلم، مخلصاً في نفع الناس، قال ابن خلكان: «ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فعمر في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفاً كبيراً، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد أيضاً، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفاً على الشافعية ووقفها جيد أيضاً، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستاناً (أي مستشفى)، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة أيضاً، وقفها كثير، وله بمصر مدرسة للمالكية. ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكبيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر». (وفيات الأعيان، 7/206-207).

وختاماً: رحم الله السلطان صلاح الدين الأيوبي وجزاه عما قدمه للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي، أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض