خالد بن الوليد

سيف الله المسلول.. خالد بن الوليد

اعتباراً من هذا الشهر، سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:

هو أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي، صحابي وقائد عسكري، لقّبه الرسول صلى الله عليه وسلـم بسيف الله المسلول. اشتهر بعبقرية تخطيطه العسكري وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام، في عهد خليفتي الرسول صلى الله عليه وسلـم أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في غضون عدة سنوات من عام 632 حتى عام 636.
يعد أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يهزموا في معركة طوال حياتهم، فهو لم يُهزم في أكثر من مائة معركة أمام قوات متفوقة عددياً. اشتهر خالد بانتصاراته الحاسمة في المعارك  بفضل تكتيكاته التي استخدمها، ومن أبرزها معركة  اليرموك.

إسلامه

اعتنق خالد بن الوليد الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية، وشارك في حملات مختلفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أهمها غزوة مؤتة وفتح مكة. وفي عام 638، وهو في أوج انتصاراته العسكرية، عزله الخليفة عمر بن الخطاب من قيادة الجيوش لأنه خاف أن يفتتن الناس به، فصار خالد بن الوليد في جيش الصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح وأحد مقدميه، ثم انتقل إلى حمص حيث عاش لأقل من أربع سنوات حتى وفاته ودفنه بها.

نشأته

وفقاً لعادة أشراف قريش، أُرسل خالد إلى الصحراء، ليربّى على يدي مرضعة ويشب صحيحاً في جو الصحراء. وقد عاد لوالديه وهو في سن الخامسة أو السادسة. وتعلم خالد الفروسية كغيره من أبناء الأشراف، وأبدى نبوغاً ومهارة فيها منذ وقت مبكر، وتميز على جميع أقرانه، كان خالد صاحب قوة مفرطة، كما عُرف بالشجاعة والجَلَد والإقدام، والمهارة وخفة الحركة في الكرّ والفرّ. واستطاع خالد أن يُثبت وجوده في ميادين القتال، وأظهر من فنون الفروسية والبراعة في القتال ما جعله من أفضل فرسان عصره.

معركة مؤته

في عام 8 هـ، وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لقتال الغساسنة، بعد أن اعترض شرحبيل بن عمرو الغساني عامل قيصر الروم على البلقاء، اعترض الحارث بن عمير الأزدي مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بصرى، وقتله. انضم خالد حديث العهد بالإسلام إلى ذلك الجيش ذي الثلاثة آلاف مقاتل. اختار النبي عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم زيد بن حارثة لقيادة الجيش، على أن يخلفه جعفر بن أبي طالب إن قتل، ثم عبدالله بن رواحة إن قتل جعفر، وإن قتل الثلاثة يختار المسلمون قائداً من بينهم.

عند وصول الجيش إلى مؤتة، وجد المسلمون أنفسهم أمام جيش من مائتي ألف مقاتل نصفهم من الروم والنصف الآخر من الغساسنة. فوجئ المسلمون بالموقف، وأقاموا لليلتين في معان يتشاورون أمرهم. أشار البعض بأن يرسلوا للرسول ليشرحوا له الموقف، وينتظروا إما المدد أو الأوامر الجديدة. عارض ابن رواحة ذلك، وأقنع المسلمين بالقتال.

بدأت المعركة، وواجه المسلمون موقفاً عصيباً، حيث قتل القادة الثلاثة على التوالي، عندئذٍ اختار المسلمون خالد بن الوليد ليقودهم في المعركة. صمد الجيش بقية اليوم، وفي الليل نقل خالد ميمنة جيشه إلى الميسرة، والميسرة إلى الميمنة، وجعل مقدمته موضع الساقة، والساقة موضع المقدمة. ثم أمر طائفة بأن تثير الغبار ويكثروا الجلبة خلف الجيش حتى الصباح. وفي الصباح، فوجئ جيش الروم والغساسنة بتغيّر الوجوه والأعلام عن تلك التي واجهوها بالأمس، إضافة إلى الجلبة، فظنوا أن مدداً قد جاء للمسلمين. عندئذٍ أمر خالد بن الوليد الجيش بالانسحاب، وخشي الروم أن يلاحقوهم، خوفاً من أن يكون الانسحاب مكيدة. وبذلك، نجح خالد في أن يحفظ الجيش من إبادة شاملة. حارب خالد ببسالة في غزوة مؤتة، وكسرت في يده يومئئذٍ تسعة أسياف. وبعد أن عاد إلى يثرب، أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلـم ولقّبه بسيف الله المسلول.

خالد على رأس جيش المسلمين في اليرموك

بلغ خالد بن الوليد أن الروم قد حشدوا جيشاً يقارب240 ألف جندي في اليرموك، فتوجهت جيوش المسلمين إليهم. وأظهر خالد أحد تكتيكاته الجديدة، فقسم جيشه فرقاً كل منها ألف رجل، وجعل على ميمنته عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وعلى القلب أبا عبيدة عامر بن الجراح، وجعل على رأس كل فرقة بطلاً من أبطال المسلمين أمثال القعقاع وعكرمة وصفوان بن أمية. ثم رسم خالد خطة لاستدراج الروم بعيداً عن مواقعهم التي حفروا أمامها الخنادق، فكلف عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو التميمي الهجوم بفرقتيهما فجراً حتى يبلغا خنادق الروم، وبعد ذلك يتظاهران بالانهزام ويتقهقران. ونفذ القائدان المهمة بنجاح، فلما رآهم الروم يتراجعون، هاجموهم. وأظهر المسلمون بسالة في القتال الذي استمر إلى الغروب. وأخيراً تمكن المسلمون من الفصل بين فرسان الروم ومشاتهم، فأمر خالد بمحاصرة الفرسان. فلما ضاق فرسان الروم بالقتال وأصابهم التعب، فتح المسلمون أمامهم ثغرة أغرتهم بالخروج منها طالبين النجاة، تاركين المشاة لمصيرهم. اقتحم المسلمون عليهم الخنادق، وقتلوا منهم ألوفاً. كان انتصار اليرموك بداية نهاية سيطرة الروم على الشام.

عزل خالد

تحدث الناس بانتصارات خالد في الشام والعراق، وتغنّى الشعراء بفعاله، فما كان من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إلا أن أمر بعزل خالد عن قيادة الجيش الإسلامي في الشام، فكثر اللغط حول عزل عمر لخالد، فأذاع عمر بن الخطاب في الأمصار: “إني لم أعزل خالداً عن سخط ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويُبتلوا به. فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع”.

وفاته

هناك إجماع على أن خالد توفي عام 21هـ / 642م، ونقل ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق الكبير عدة روايات ترجح وفاته بحمص، وروي أن خالداً قال وهو على فراش موته:

((لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء)).

ملامح من شخصية خالد العسكرية

خاض خالد نحو مائة معركة، خلال مسيرته العسكرية، دون أن يهزم، مما جعل منه واحداً من خيرة القادة عبر التاريخ. ينسب إلى خالد العديد من التكتيكات الناجحة التي استخدمها المسلمون في معاركهم الكبرى خلال الفتوحات الإسلامية. وقد اعتمد خالد في معاركه على مهاجمة قادة أعدائه مباشرةً، لتوجيه ضربات نفسية لمعنويات أعدائه وجعل صفوفهم تضطرب. كما اعتمد في بعض معاركه على تكتيك الحرب النفسية، مثلما فعل يوم مؤتة عندما أوهم الروم بأن المدد متواصل إليه. كما كان من إنجازاته استخدام أسلوب المناوشات بوحدات صغيرة من الجند في المعارك، لاستنفاد طاقة أعدائه، ومن ثم شن هجمات بفرسانه على الأجنحة، مثلما فعل في معركة الولجة التي استخدم فيها نسخة غير مألوفة من تكتيك الكماشة، حيث كان عادةً ما يركّز على إبادة قوات أعدائه، بدلاً من تحقيق الانتصارات العادية.

استخدم خالد التضاريس متى أمكنه ذلك لضمان التفوق الاستراتيجي على أعدائه. فخلال معاركه في العراق، تعمّد في البداية أن يبقى دائماً قريباً من الصحراء العربية، حتى يكون من السهل على قواته الانسحاب في حالة الهزيمة، وهم أدرى الناس بالصحراء. إلا أنه بعد أن دمّر القوات الفارسية وحلفاءها توغّل في عمق الحيرة. كما استغل اتخاذ الروم لمعسكرهم المنحصر من ثلاث جهات بالمرتفعات في اليرموك، لينفذ استراتيجيته ويبيد الروم. كما برع خالد في استخدام تكتيك الهجوم المفاجئ، والذي شتّت به قوات أعدائه في جنح الليل.
كما اعتمد خالد في بعض الأحيان على الفكر غير التقليدي، مثلما فعل عندما اجتاز بادية الشام حين كان متجهاً إلى الشام مدداً لجيوش المسلمين، فقطع بذلك طريق الإمدادات على قوات الروم في أجنادين قبل مواجهتها لجيوش المسلمين. اعتمد خالد أيضاً في تكتيكاته على الفرسان الذين استخدمهم لتنفيذ أساليب الكرِّ والفرِّ لتطبيق خططه الحربية، فهاجم بهم تارةً الأجنحة وتارةً قلب جيوش أعدائه ملحقاً بهم هزائم كارثية. من أسرار تفوقه العسكري أيضاً، اعتماده على استخدام العيون من السكان المحليين في المناطق التي حارب فيها، ليأتوه بأخبار أعدائه.

رحم الله خالد بن الوليد.. فقد كان قائداً عسكرياً إسلامياً قلَّ نظيره.. وكان سيفاً من سيوف الله استلَّه على أعداء الإسلام والمسلمين.

إعداد: نادر نايف محمد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض