الموضوع الديني

المحدث الفقيه: سفيان الثوري «رحمه الله» (المتوفى سنة: 161ه)

(فقهاء عظام في تاريخ الإسلام) الجزء (6)

المحدث الأعظم، الفقيه الأكبر، المجتهد العالم، الشيخ الإمام، العابد العامل، الورع الزاهد، الناصح الحكيم، الخاشع الصابر، المتدبر المفكر، كنيته أبوعبدالله، واسمه سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبدالله بن موهبة الثوري، رحمه الله ورحم الله فقهاء المسلمين.

كان “رحمه الله” فقيهاً ورعاً من فقهاء المسلمين، وإماماً محدثاً من أئمة المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح فقهه وإمامته “رحمه الله”:

1. الفقيه الإمام المجتهد:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان إماماً عالماً مجتهداً، بل صاحب أحد المذاهب الستة المتبوعة، ولا أدل على ذلك من ثناء الأئمة وشهادتهم له بالفقه والإمامة والاجتهاد، فيروى عن محمد بن المعتمر بن سليمان أنه قال: «قلت لأبي: من فقيه العرب؟ قال سفيان الثوري»، ويروى عن عبدالله بن المبارك أنه قال: «كنت إذا أعياني الشيء أتيت سفيان أساله، فكأنما أغتمسه من بحر» (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/57)، ووصف الذهبي سفيان بقوله: «هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبوعبدالله الثوري، الكوفي، المجتهد»، وروي عن المروذي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي»، وروي عن أحمد بن يونس أنه قال: «سمعت زائدة، وذكر عنده سفيان، فقال: ذاك أفقه أهل الدنيا» (سير أعلام النبلاء، 7/230-247)، وروي عن ابن حبان أنه قال عن سفيان: «كان من سادات الناس فقهاً وورعاً وإتقاناً» تهذيب التهذيب: (4/115)، وقال الخطيب البغدادي عن سفيان: «كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمعاً على إمامته بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الإتقان، والحفظ، والمعرفة، والضبط، والورع، والزهد» (تاريخ بغداد: 10/219)، وقال بشر بن الحارث: «كان سفيان الثوري كأن العلم بين عينيه، يأخذ منه ما يريد ويدع منه ما يريد» (وفيات الأعيان: 2/386)، وروي عن سفيان بن عيينة قوله: «ما رأيت أحداً أحرص على العلم من سفيان، يعني الثوري، ولو يسأل: أي الناس أعلم؟ لقالوا: سفيان» (تاريخ أبي زرعة، ص: 579)، وروي عن عبدالرحمن بن مهدي أنه قال: «ما رأيت أعقل من مالك، ولا رأيت أعلم من سفيان» (حلية الأولياء: 6/359).

2. الفقيه العابد العامل:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان عابداً عاملاً بعلمه ناسكاً طائعاً لربه، فيروى عن ابن وهب أنه قال: «رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء»، ويروى عن عبدالرزاق أنه قال: «لما قدم سفيان علينا، طبخت له قدر سكباج، فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف، فأكل، ثم قال: يا عبدالرزاق، اعلف الحمار وكده، ثم قام يصلي حتى الصباح»، وعن عبدالرحمن بن مهدي: «كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه» (سير أعلام النبلاء: 7/266و277)، ويروى عن محمد بن يوسف أنه قال: «كان سفيان الثوري يقيمنا بالليل يقول: قوموا يا شباب صلوا ما دمتم شباباً»، وعن أبي خالد قال: «صحبت سفيان في طريق مكة، فكان يقرأ في المصحف كل يوم، فإذا لم يقرأ فيه فتحه فنظر فيه وأطبقه» (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/86 و96)، ويروى عن يوسف بن أسباط أنه قال: «قال لي سفيان الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف، ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت إليه، فإذا المطهرة في يده على حالها، فقلت: يا أبا عبدالله قد طلع الفجر قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة» (حلية الأولياء: 7/53).

3. الفقيه الورع الزاهد:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان ورعاً زاهداً، فيروى عن قتيبة بن سعيد أنه قال: «لولا الثوري لمات الورع» (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/96)، وقيل لفضيل بن عياض في بعض ما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟ قال: سفيان الثوري، ويروى أن سفيان الثوري قال: «عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك»، وروي عن يحيى بن يمان أنه قال: «أتعب سفيان القراء بعده، ولا رأينا مثل سفيان، ولا رأى سفيان مثله، أقبلت عليه الدنيا فانصرف بوجهه عنها» (حلية الأولياء: 7/3 و20و68)، ومن شدة اهتمامه “رحمه الله” بالزهد أوصى في كثير من وصاياه به، فروي أنه قال: «ليس الزهد في الدنيا بأكل الجشب ولبس الخشن إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل»، وروي عن عبدالرحمن بن عبدالله البصري قال: قال رجل لسفيان: أوصني، قال: «اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، والسلام»، ويروى عن محمد بن يزيد أنه قال: «سمعت سفيان الثوري، يقول: بلغني أنه يأتي على الناس زمان تمتلئ قلوبهم في ذلك الزمان من حب الدنيا فلا تدخله الخشية، قال سفيان: «وأنت تعرف ذلك إذا ملأت جراباً من شيء حتى يمتلئ فأردت أن تدخل فيه غيره لم تجد لذلك من خلاء» (حلية الأولياء: 6/386-7/38 و56)، وروى يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري أنه قال: «أفضل الأعمال الزهد في الدنيا» (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/96)، ويروى عن سفيان قوله: «الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة، فالفرض: أن تدع الفخر والكبر، والعلو، والرياء، والسمعة، والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله» (سير أعلام النبلاء: 7/244).

4. الفقيه الناصح الحكيم:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً ناصحاً حكيماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولا أدل على ذلك من الحكم والآثار والأقوال التي رويت عنه، وهذه مقتطفات موجزة عن نصائحه رحمه الله، روي عنه أنه قال: «كان يقال أول العلم الصمت، والثاني الاستماع له وحفظه، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعليمه»، وري عنه أنه قال: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، وروي أنه قال: «لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة»، وقال: «إن أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة»، ويروى أنه قال:«ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول: لا إله إلا الله، ولا شيء يضاعف ثوابه من الكلام مثل الحمد لله»، وروي أنه قال: «ثلاثة من الصبر: لا تحدث بمعصيتك، ولا بوجعك، ولا تزكِّ نفسك»، وحدث مبارك أبو حماد، قال: «سمعت سفيان الثوري، يقرأ على علي بن الحسن: يا أخي اطلب العلم لتعمل به، ولا تطلبه لتباهي به العلماء، وتماري به السفهاء، وتأكل به الأغنياء، وتستخدم به الفقراء، فإن لك من علمك ما عملت به، وعليك ما ضيعت منه، فقد بلغنا، والله أعلم، أنه من طلب الخير صار غريباً في زماننا، ولا تستوحش، واستقم على سبيل ربك، فإنك إن فعلت ذلك كان مولاك الله تعالى، وجبريل، وصالح المؤمنين، واشتغل بذكر عيوب نفسك عن ذكر عيوب غيرك، واحزن على ما قد مضى من عمرك في غير طلب آخرتك، وأكثر من البكاء على ما قد أوقرت به ظهرك، لعلك تتخلص منها، ولا تمل من الخير وأهله، ولا تباعد عنهم، فإنهم خير لك ممن سواهم، ومل الجهال وباطلهم، وتباعد عنهم، فإنه لن ينجو من جاورهم، إلا من عصم الله، وإن أردت اللحاق بالصالحين فاعمل بأعمال الصالحين، واكتف بما أصبت من الدنيا، ولا تنس من لا ينساك، ولا تغفل عمن قد وكل بك، يحصي أثرك، ويكتب عملك، راقب الله في سريرتك، وعلانيتك، وهو رقيب عليك، واستح ممن هو معك وهو أقرب إليك من حبل الوريد، اعرف فاقة نفسك، وحقارة منزلتها، فإنك حقير فقير إلى ربك، وابك على نفسك وارحمها، فإنك إن لم ترحمها لم ترحم، ولا تغشها، ولا توردها، وخذ منها لك، فإنك بيومك، ولست بغدك، وكأن الموت قد نزل بك، ولا تغفل غفلة الغافلين والجاهلين، وأكثر من البكاء على نفسك، فلست من الضحك بسبيل إن عقلت، فقد بلغت، والله أعلم، أن الله تعالى عير أقواماً في كتابه بالضحك، وترك البكاء فقال: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون)، ومدح أقواماً في كتابه فقال: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)، وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» (حلية الأولياء: 6/362 و363 و389-7/11 و16و32 و54)، ويروى أنه قال: «أكرموا الناس على قدر تقواهم، وتذللوا عند أهل الطاعة، وتعززوا عند أهل المعصية» (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/90)، ويروى عنه أنه قال: «احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا، فلا تجده أن تسخط على ربك» (سير أعلام النبلاء: 7/244).

ختاماً: رحم الله الإمام الورع والفقيه الزاهد سفيان الثوري، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي، أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

Instagram
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض