الزاهد القائد - عمر بن عبدالعزيز

القادة العظام في تاريخ الإسلام الجزء (8) – الزاهد القائد: عمر بن عبد العزيز رحمه الله

الآمر بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمير المؤمنين، التابعي الراشد، ثامن الملوك الأمويين، ابن حفيدة الفاروق رضي الله عنه، المخلص الأمين، الإمام العادل، الزاهد الورع، العالم المجتهد، المؤمن الموحد، الأواه العابد، القانت الحنيف، المتبع المصلح، المتواضع الحليم، النقي الطاهر، البليغ الفصيح، الخلوق العاقل، المجدد الأول في الإسلام، لقب بالخليفة الراشد وعمر الثاني وأشج بني أمية، كنيته أبو حفص، واسمه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي رحمه الله ورحم الله قادة المسلمين الأخيار.

كان رضي الله عنه أميراً زاهداً من أمراء المؤمنين، وخليفةً عادلاً من خلفاء المسلمين، وقائداً خيِّراً من قادة الأمويين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رحمه الله:

1. القائد المخلص الأمين:

من أهم ملامح قيادته أنه كان قائداً مخلصاً أميناً في قيادة شؤون الدولة، ولا أدل على ذلك من قوله في أول خطبة خطبها حين بويع بالخلافة، فيروى عنه أنه صعد المنبر وقال: «أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا، فلِ أمرنا باليُمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي الناس به جميعاً، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خَلَفٌ، فاعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه – فيما بينه وبين آدم عليه السلام- أباً حياً لمعرقٌ له في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً، ثم رفع صوته حتى أسمع الناس، فقال: يا أيها الناس من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله عز وجل، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين» (أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز، للآجري: 56-57).

2. القائد الإمام العادل:

من أهم ملامح قيادته أنه كان قائداً إماماً عادلاً، ولا أدل على ذلك من رده المظالم والحقوق جميعها سواء المتعلقة بنفسه أو بأهل بيته أو قومه بني أمية، وسواء أكانت واقعة على الأحرار أو الموالي أو أهل الذمة، وقدر رويت عن عدله رحمه الله روايات عديدة، من ذلك ما روي عنه أنه أول ما استخلف «أمر مناديه أن ينادي ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله عز وجل، قال: وما ذاك، قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي – والعباس جالس- فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال:أقطعنيها يا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، فاردد عليه يا عباس ضيعته، فرد عليه، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يديه وفي يدي أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة» (أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز للآجري، ص: 57-58)، ومن شدة حرصه على العدل رحمه الله أنه عزل جميع الولاة الظالمين ونهى عن أخذ المكوس والضرائب، وأوصى عماله على الأمصار بإقامة العدل والحذر من الظلم، فيروى أنه كتب لعامله على خراسان الجراح بن عبدالله: «لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطاً إلا في حق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها» (تاريخ الطبري: 6/560)، بل إنه رحمه الله أمر أن تكتب على النقود عبارة: «أمر الله بالوفاء والعدل» (تاريخ دمشق لابن عساكر: 57/140).

3. القائد الزاهد الورع:

من أهم ملامح قيادته أنه كان قائداً زاهداً ورعاً، وكل ملامحه القيادية الفاضلة إنما كان منبعها الأساس زهده رحمه الله في الدنيا، فهو الزاهد الحقيقي الذي أتته الدنيا فتركها، وقد رويت عنه آثار كثيرة في زهده وورعه، ومن زهده رحمه الله ما روي عن مسلمة بن عبد الملك قال: «دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين، قالت: نفعل إن شاء الله، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه؟ قالت: والله ما له قميص غيره» (صفة الصفوة: 1/368). ومما يروى عن ورعه العظيم رحمه الله أنه قال لمولاه مزاحم: «إني قد اشتهيت الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر ديناراً، قال: وما تقع مني؟ ثم مكث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين تجهّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف دينار من بعض مال بني مروان، قال: اجعلها في بيت المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراماً فكفانا ما أصبنا منها، قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علي قال: ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شيء صنعته لله، فإن لي نفساً تواقة لم تتق إلى منزلة فنالتها، إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة» (سيرة عمر لعبدالله بن الحكم، ص: 59)، ويروى أنه كان «يعحبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوماً عسلاً فلم يكن عنده، فأتوه بعد ذلك بعسل، فأكل منه، فأعجبه، فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته: بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي، فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به، فأتته بُعكَّة، فيها عسل، فباعها بثمن يزيد على الدينارين، ورد عليها رأس مالها، وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: أنصبت دواب المسلمين في شهوة عمر» (أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز للآجري، ص: 54).

4. القائد المصلح المجدد:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان مصلحاً لأمته ومجدداً لأمر دينها، فقد رويت عنه إصلاحات كثيرة في كل ما يتعلق بحياة الناس والدولة، فقد حرص على إزالة المنكرات والمحرمات في مجتمع الناس، وإحياء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وحرص على تعليم الناس عقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عيه وسلم والخلفاء الراشدين، وحرص على التحذير والرد على الفرق الضالة التي تفتن المسلمين في دينهم وتفرق بينهم، كما حرص على تزهيد الناس في الدنيا وتحبيبهم في ما عند الله تعالى، واهتم بتقريب العلماء المخلصين ليشاركوا في اتخاذ القرارات ويكونوا خير الناصح والمستشار والموجه للخليفة، بالإضافة إلى اهتمامه بأمر الدعوة وشؤون الدعاة، فشجع الدعاة على نشر العلم والسنة بين الناس، وخصص لهم رواتب من بيت المال، وأرسل العلماء إلى الأمصار ليعلموا الناس أمور دينهم، وراسل الملوك وبعث إليهم البعوث يدعوهم إلى دين الله تعالى، وتألف قلوب أهل الذمة ودعاهم إلى الإسلام بسماحة وأخلاق الإسلام. ومن أعظم الإصلاحات التي قام بها رضي الله عنه إصلاحه لاقتصاد الدولة، فقد اهتم بكل ما من شأنه تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة وتحقيق الرخاء وزيادة الرفاه وارتفاع مستوى المعيشة وتأمين كافة أنواع الرعاية الاجتماعية والصحية لكافة أفراد المجتمع بجميع فئاتهم وتنظيمها، وسعى إلى القضاء على كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الفساد في الأعمال الخاصة بالدولة فوسع على العمال الأرزاق، ونهى عن الإسراف والتبذير، ومنع نفسه وعماله من أخذ الهبات والهدايا وممارسة التجارة.

5. القائد المستشرف المدون:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً مستشرفاً حريصاً على تدوين العلم والسنة، ولا أدل على ذلك من استشرافه رحمه الله لمستقبل السنة، فأمر بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقييد العلم بالكتابة، فقد أمر بعض العلماء بصفته خليفة للمسلمين بجمع كل ما يتعلق بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وذلك بهدف حفظ السنة من الضياع والوضع، فقد كتب «إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً» (البخاري: بابكيف يقبض العلم: 1/31)، وروي أنه أمر أهل المدينة بكتابة الحديث بقوله: «أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله» (سنن الدارمي برقم: 505)، وروى الإمام ابن شهاب الزهري أن عمر بن عبد العزيز أمره «بجمع السنن، فكتبناه دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً» (تاريخ ابن أبي خيثمة: 2/247).

وختاماً: رضي الله عن الخليفة الراشد والإمام العادل والزاهد العابد عمر بن عبد العزيز سليل الفاروق نسباً وسيرة، الذي جدد الله به علاقة الأمة بدينها، وأحيا به دولة العدل والعلم والإيمان، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر عيسى أحمد البلوشي – كبير باحثين بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي

Youtube
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض