Capture

القادة العظام في تاريخ الإسلام (الجزء الثاني)

الصِّدِّيق القائد رضي الله عنه

خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلـم وصاحبه ونائبه وخليله ووزيره ومستشاره ورفيق هجرته، أمير المؤمنين، أول الخلفاء الراشدين، أحد العشرة المبشرين بالجنة، أول من أسلم من الرجال الأحرار، خير خلق الله وأعظمهم بعد الأنبياء والرسل، ثاني اثنين في الغار، عتيق الله من النار، المؤمن، الصادق، التقي، العابد، الزاهد،الأواه، البكاء، كنيته أبوبكر، ولقبه الصّدِّيق، واسمه عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب التَّيمي القرشي رضي الله عنه وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلـم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

كان رضي الله عنـه أميراً أميناً من أمراء المؤمنين، وخليفةً راشداً من خلفاء المسلمين، وقائداً عظيماً من قادة مدرسة رسول رب العالمين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رضي الله عنه:

1. القائد المخلص المسؤول:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عـنـه أنه كان مخلصاً في قبول الخلافة والقيادة والإمارة، قبلها دفعاً للفتنة، وتوحيداً للكلمة، وإعزازاً للملة، ولا أدلَّ على ذلك من قوله في خطبته: «والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلةً قَط، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانيةٍ، ولكنني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحةٍ، ولكن قُلِّدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقةٍ ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أنَّ أَقوى الناس عليها مكاني اليوم» (المستدرك على الصحيحين: 4422)، ويروى عنه أنه قال بعد أن بايعه الناس: «أيها الناس، فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانةٌ، والكذب خيانةٌ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله» (تاريخ الطبري:3/210).

2. القائد الأمين العفيف:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً أميناً عفيفاً، يروى عنه حين ولي الخلافة أنه «أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثوابٌ يتَّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تصنع ماذا، وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئاً، فانطلق معهما، ففرضوا له كل يومٍ شطر شاةٍ» (الطبقات الكبرى: 3/184)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبوبكرٍ الصديق، قال: «لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكرٍ من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه» (البخاري: 2070)، فتأمل أمانة وعفة نفس هذا القائد الذي يستطيع أن يستغني بالخلافة ويتنعم بأموال المسلمين، مع ذلك يحرص على أن لا يأكل هو وأهل بيته درهماً واحداً من دراهم بيت المسلمين بغير حق.

3. القائد المتواضع الحليم:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنـه التواضع للناس والحلم عليهم، فيروى أنه «كانت له قطعة غنمٍ تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها، وربما كُفِيها فرُعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جاريةٌ من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكرٍ فقال: بلى لعَمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلقٍ كنت عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية، أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالت فعل، فمكث كذلك بالسنح ستة أشهرٍ، ثم نزل إلى المدينة» (طبقات ابن سعد: 3/186)، فتأمل حال هذا القائد العظيم، القائد الأعلى لجيوش المسلمين، فاتح الأمصار ومخضع الناس لدين الجبار، يتواضع ويحلب لجاريتين من جواري الحي!

4. القائد العادل الورع:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنـه العدل في قسمة المال على الرعية، فيروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «قسم أبي أول عامٍ الفيء فأعطى الحر عشرةً وأعطى المملوك عشرةً والمرأة عشرةً وأمتها عشرةً، ثم قسم في العام الثاني فأعطاهم عشرين عشرين» (طبقات ابن سعد: 3/193)، «فجاء ناسٌ من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلـم، إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس، ومن الناس أناسٌ لهم فضلٌ وسوابق وقدمٌ، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم، فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيءٌ ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاشٌ، فالأسوة فيه خيرٌ من الأثرة» (الخراج لأبي يوسف، ص: 51)، فتأمل رأي الصديق رضي الله عنـه في مساواة قسمة المال على الرعية، ولا شك أن هذا الاجتهاد منه نابع من حرصه على العدل في العطايا والمنح والحقوق.

5. القائد الحازم الشجاع:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنـه الحزم في المواضع التي تستلزم الحزم، فقد كان قائداً حازماً لا يتردد في اتخاذ القرارات حينما يستدعي الأمر ذلك، ولا أدل على ذلك من شنه حرباً ضد أهل الردة، الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلـم، وانقسموا إلى ثلاثة أصناف، صنف كفروا بالدين كله وعادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف ثانٍ من أهل اليمامة وصنعاء وجماعة غيرهم تبعوا مدعي النبوة كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وصنف ثالث استمروا على الإسلام لكنهم منعوا زكاة أموالهم وتأولوا بأنها خاصةٌ بزمن النبي صلى الله عليه وسلـم (فتح الباري: 12/276)، فاتخذ أبوبكر الصديق رضي الله عنـه معهم الحزم، فبعث إليهم البعوث والجيوش حتى قضى على هذه الفتنة، وقال قولته المشهورة: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلـم لقاتلتهم على منعها» (البخاري: 1400).

6. القائد السمح الوسطي:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنـه السماحة والوسطية، فقد كان قائداً سمحاً، ولا أدل على ذلك من التزامه بمنهج نبيه صلى الله عليه وسلـم ووصيته لأمراء الحرب، فقد وصى رضي الله عنـه يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام فقال: «لا تقتلن امرأةً، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن» (موطأ مالك: 2/447)، فهذه الوصية تدل على وسطية منهج الصديق رضي الله عنـه في القيادة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا ظلم ولا حيف.

وختاماً: رضي الله عن الصحابي الجليل أبي بكر الصديق، الذي كان خير صاحبٍ وخليفةٍ لنبينا صلى الله عليه وسلـم، وخير قائدٍ وأميرٍ للمؤمنين، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر عيسى أحمد البلوشي – كبير الباحثين بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض