الزاهد الفقيه

الزاهد الفقيه الحسن البصري «رحمه الله» (المتوفى سنة: 110ه)

فقهاء عظام في تاريخ الإسلام الجزء الرابع

التابعي المخلص، الفقيه العابد، الإمام المحدث، المفسر المجتهد، الواعظ العالم، الحكيم الزاهد، الناسك الورع، الخطيب البليغ، الموجه الفصيح، القوي الشجاع، الجميل المهاب، كنيته أبو سعيد، واسمه الحسن بن يسار البصري رحمه الله ورحم الله فقهاء المسلمين.

كان “رحمه الله” فقيهاً تابعياً من فقهاء المسلمين، وإماماً زاهداً من أئمة المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح فقهه وإمامته “رحمه الله”:

1. الفقيه المفسر المبين:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان مفسراً لكتاب الله، وقد نقلت كتب التفاسير كثيراً من تفسيراته للآيات القرآنية، وهذه أمثلة لتفسيره لبعض قصار السور، روي عنه أنه قال في قوله تعالى: (والتين والزيتون): تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم هذا الذي يعصر، وفي قوله تعالى: (وهذا البلد الأمين): البلد الحرام، وسئل عن قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، أرأيت ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: «نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة القدر، فيها يفرق كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق، إلى مثلها»، وروي عنه أنه قال في قوله تعالى: (ويمنعون الماعون): منعوا صدقات أموالهم، فعاب الله عليهم، وهو المنافق الذي يمنع زكاة ماله، فإن صلى راءى، وإن فاتته لم ييأس عليها، ينظر لكل ما سبق: (تفسير الطبري: سورة التين والقدر والماعون)، وقال في قوله تعالى: (من الجِنَّة والناس :(«هما شيطانان، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية» (تفسير القرطبي: سورة الناس).

2. الفقيه المحدث الثقة:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان محدثاً ثقةً صدوقاً عدلاً، ولا أدل على ذلك من ثناء أئمة الحديث عليه وروايتهم لأحاديثه وفي مقدمتهم الإمامان صاحبا الصحيحين البخاري ومسلم، فقد أخرج البخاري عن الحسن عن أبي بكرة قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانكسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلى بنا ركعتين، حتى انجلت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا، حتى يكشف ما بكم» (البخاري: 1040)، وأخرج البخاري عن الحسن أنه قال: حدثنا عمرو بن تغلب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة» (البخاري: 2927)، وأخرج البخاري عن الحسن قال: حدثنا مجاهد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً» (البخاري: 6914)، وأخرج البخاري عن الحسن قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير» (البخاري: 6622)، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. قال معقل: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو علمت أن لي حياة ما حدثتك. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة» (مسلم: 227).

3. الفقيه الحكيم الواعظ:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان حكيماً واعظاً، يوجه ويخطب وينصح ويذكر، ويحث على الإيمان والعمل الصالح، ويحذر من الغفلة عن الآخرة وطول الأمل، وحكمه ومواعظه “رحمه الله” كثيرة جداً، من ذلك ما روي عنه أنه قال:«يا ابن آدم إنك موقوف بين يدي ربك، ومرتهن بعملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسؤول ولا تجد جواباً، وإن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه»، وقوله: «ما من رجل يرى نعمة الله عليه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، إلا أغناه الله تعالى وزاده»، ويروى عن موهب بن عبدالله قال: «لما استخلف عمر بن عبد العزيز كتب إليه الحسن البصري كتاباً بدأ فيه بنفسه، أما بعد: فإن الدنيا دار مخيفة، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه، يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء، والسلام»، ويروى عن عمران بن خالد عن الحسن قال: وسأله رجل أن رجلاً قال للحسن: «يا أبا سعيد ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، فقال الرجل: يا أبا سعيد فما الصبر والسماحة؟ قال: الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله عز وجل» (حلية الأولياء للأصفهاني: 2/145-148)، وروي أن الحسن كتب إلى فرقد يوصيه:«أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا حيلة لأحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمر الساق، فإن الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار»، وروي عن الحسن قوله: «من علامات المسلم قوة دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته» (البداية والنهاية لابن كثير: 9/269-270).

4. الفقيه العابد الناسك:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان عابداً ناسكاً خاشعاً كثير الخوف من الآخرة، فقد روي عن ابن أبي الدنيا عن حمزة الأعمى قال: «ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد: ابني هذا قد أحببت أن يلزمك، فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يوماً: يا بني، أَدِم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابْكِ في ساعات الليل والنهار في الخلوة، لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك، فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يَبْكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار، وقال: ما هو إلا حلول الدار، إما الجنة وإما النار، ما هناك منزل ثالث»، وروي عن الحسن قوله: «بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار. وقال: لو أن باكياً بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعاً، وليس شيء من الأعمال إلا له وزن، إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوّم الله بالدمعة منه شيئاً. وقال: ما بكى عبدٌ إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب» وروي عن يزيد بن حوشب قوله: «ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما» (البداية والنهاية لابن كثير: 9/269 و9/273)، وروي عن السري بن يحيى قوله: «كان الحسن يصوم: البيض، والأشهر الحرم، والاثنين والخميس» (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/578)، وقال أبو نعيم الأصفهاني عن الحسن: «حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المتشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاً، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً» (حلية الأولياء للأصفهاني: 2/131).

5. الفقيه الفصيح البليغ:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً فصيحاً بليغاً، فقد روي عن أبي عمرو بن العلاء قوله: «ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح قال: الحسن»، وقال له رجل: «أنا أزهد منك، وأفصح، قال أما أفصح فلا، قال: فخذ علي كلمة واحدة، قال: هذه» (وفيات الأعيان: 2/70-71)، وروي عن حماد بن زيد أنه قال: سمعت أيوب يقول: «كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء» (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/577)، وقيل للحجاج: «من أخطب الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة، يعني الحسن» (البيان والتبيين للجاحظ: 2/196)، وقال الجاحظ: «فأما الخطب فإنّا لا نعرف أحداً يتقدم الحسن البصري فيها» (البيان والتبيين للجاحظ: 1/285).

6. الفقيه القوي الشجاع:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً قوياً شجاعاً، فقد روي عن هشام بن حسان قوله: «كان الحسن أشجع أهل زمانه» (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/578). وروي عن الأصمعي عن أبيه قال: «ما رأيت زنداً أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبراً» (سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/572).

ختاماً: رحم الله الفقيه الزاهد الحسن اسماً وسيرة، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

الدكتور ناصر بن عيسى البلوشي – أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

Youtube
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض