التابعي الفقيه

التابعي الفقيه سعيد بن المسيب “رحمه الله” (المتوفى سنة: 94ه)

(فقهاء عظام في تاريخ الإسلام) (3)

إمام التابعين، شيخ المفتين، فقيه الفقهاء، عالم أهل المدينة وأحد فقهائهاالسبعة، إمام مدرسة الحديث، المفتي المعلم، الخلوق المهاب، الواعظ الناصح، الزاهد الورع، العابد المتقي، كنيته أبو محمد، واسمه سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران المخزومي القرشي المدني، رحمه الله ورحم فقهاء المسلمين.

كان “رحمه الله” فقيهاً تابعياً من فقهاء المسلمين، وإماماً مخلصاً من أئمة المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح فقهه وإمامته “رحمه الله”:

1 الفقيه التابعي المحدث:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان من التابعين الذي تلقوا الفقه والحديث عن جمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن الزهري أن سائلاً سأله: «عمن أخذ سعيد بن المسيب علمه؟ فقال: عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن عمر، ‌ودخل ‌على ‌زوجتي ‌النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وأم سلمة، وكان قد سمع من عثمان بن عفان، وعلي، وصهيب، ومحمد بن مسلمة، وجل روايته المسندة عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته، وسمع من أصحاب عمر وعثمان، وكان يقال ليس أحد أعلم بكل ما قضى به عمر وعثمان منه». وروي عن الزهري أيضاً أنه قال: «سمعت سليمان بن يسار، يقول: ‌كنا ‌نجالس ‌زيد بن ثابت أنا وسعيد بن المسيب وقبيصة بن ذؤيب، ونجالس ابن عباس، فأما أبو هريرة فكان سعيد أعلمنا بمسنداته لصهره منه»، وكان رحمه الله حريصاً على طلب الحديث وأقضية الصحابة، فقد روي عن مالك بن أنس: «أنه بلغه أن سعيد بن المسيب، قال: إن كنت ‌لأسير ‌الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد»، ويروى عن سعيد بن المسيب قوله: «ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر مني»، قال يزيد بن هارون قال مسعر: «وأحسب قد قال وعثمان ومعاوية»، ويروى عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال: «كان رأس من بالمدينة في دهره والمقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب، ويقال فقيه الفقهاء»، وعن مكحول قال: «سعيد بن المسيب عالم العلماء» (ينظر لكل ما سبق: الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/379-381).

2 الفقيه المفتي المعلم:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان مرجعاً للفتوى والتعليم والتدريس وبث المعرفة ورفع الجهل عن الناس، فروي عن مالك قوله: «بلغني أن ابن عمر ‌كان ‌يرسل ‌إلى ‌سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه» (البداية والنهاية: 12/473)، وروي عن ابن عمر أنه قال لرجل سأله عن مسألة: «ايت ذاك فسله (يعني سعيداً)، ‌ثم ‌ارجع ‌إلي وأخبرني، ففعل ذلك، فأخبره؛ فقال: ألم أخبرك أنه أحد العلماء. وقال ابن عمر لأصحابه: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسره (يعني سعيد بن المسيب)» (طبقات الفقهاء للشيرازي، ص:57)، وعن مالك بن أنس قال: «كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي بقضاء ‌حتى ‌يسأل ‌سعيد بن المسيب» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/382)، وعن عطاء «أن سعيد بن المسيب ‌كان ‌إذا ‌دخل ‌المسجد يوم الجمعة لم يتكلم كلاماً حتى يفرغ من صلاته، وينصرف الإمام، ثم يصلي ركعات، ثم يقبل على جلسائه ويسأل»، وعن يحيى بن سعيد قال: «كان عبدالله بن عمر إذا سئل عن الشيء ‌يشكل ‌عليه قال: سلوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/132و140).

3 الفقيه الخلوق المهاب:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان ذا خلق جم، وسماحة ووقار وهيبة، وتواضع وصفاء ونقاء، فقد روي عن عمران بن عبدالله الخزاعي قال: «كان سعيد بن المسيب ‌لا ‌يخاصم ‌أحداً ولو أراد إنسان رداءه رمى به إليه»، وروي عن عاصم الأسدي قال: «رأيت سعيد بن المسيب لا يدع ظفره يطول، ورأيت سعيداً يحفي شاربه شبيهاً بالحلق، ورأيته ‌يصافح ‌كل ‌من ‌لقيه، ورأيت سعيداً يكره كثرة الضحك، ورأيت سعيداً يتوضأ كلما بال، وإذا توضأ شبك بين أصابعه» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/133و134)، وعن عبدالرحمن بن حرملة قال: «ما كان إنسان ‌يجترئ ‌على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير» (حلية الأولياء: 2/173)، وقال الزهري: «كان لسعيد بن المسيب عند الناس قدر كبير عظيم، لخصال: ورع، ونزاهة، وعلم لا يشاكله علم أحد، ورأي صليب، ونعم العون الرأي الجيد، وكان ذلك عند سعيد بن المسيب، رحمه الله من رجل، فيه ‌عزة ‌لا ‌تكاد تراجع إلا إلى محك، ما استطعت أن أواجهه بمسألة حتى أقول: قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فيجيب حينئذٍ» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/382).

4 الفقيه الواعظ الناصح:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان مهتماً بالوعظ، وإرشاد الناس وتوجيههم وتذكيرهم وتعليق قلوبهم بالله، وتزهيدهم بالدنيا وتحذيرهم من مفاتنها، فقد روي عن سعيد بن المسيب قوله: «ما ‌أكرمت ‌العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله، وكفى بالمؤمن نصرة من الله: أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله»، وقوله: «يد ‌الله ‌فوق ‌عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله، الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته»، وقوله: «إن ‌الدنيا ‌نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها: من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها» وقوله: «من ‌استغنى ‌بالله افتقر الناس إليه» (حلية الأولياء: 2/164-173)، وروي عنه أيضاً رحمه الله قوله: «إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ‌ذي ‌فضل إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله» (صفوة الصفوة: 1/347).

5 الفقيه الزاهد الورع:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان زاهداً ورعاً مستغنياً عما في أيدي الناس من فضول الدنيا وأموالها، يكسب المال من عمل يده، فروي عن عمران بن عبدالله قوله: «كان سعيد ‌يكثر ‌الاختلاف إلى السوق»، وروي عن عمران أيضاً قوله: «كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فليس ‌أحد ‌يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشراب فيشربه، فإن أتي من منزله بشراب شربه، وإن لم يؤت من منزله بشيء لم يشرب شيئاً حتى ينصرف»، وعن عمران أيضاً قال: «كان لسعيد بن المسيب في بيت ‌المال ‌بضعة وثلاثون ألفاً عطاء، فكان يدعى إليها فيأبى»، وروي عن سعيد بن المسيب قوله: «‌ما ‌أظلني بيت بالمدينة بعد منزلي، إلا أني آتي ابنة لي فأسلم عليها أحياناً» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/128-134)، وروي عن أحمد بن عبد الله العجلي قوله: «كان سعيد رجلاً صالحاً فقيهاً، كان لا يأخذ العطاء، وكانت له بضاعة أربعمائة دينار، وكان ‌يتجر ‌في ‌الزيت»، وقال ابن كثير: «كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني» (البداية والنهاية: 9/100)، وروي عن عمران بن عبد الله قوله: «كان سعيد بن المسيب ‌لا ‌يقبل ‌من ‌أحد شيئاً: لا ديناراً ولا درهماً، ولا شيئاً، وربما عرضت عليه الأشربة، فيعرض، فلا يشرب من شراب أحد منهم»، وروي عن سعيد بن المسيب قوله: «لا خير فيمن لا يريد ‌جمع ‌المال ‌من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس» (حلية الأولياء: 2/167و173).

6 الفقيه العابد المتقي:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان عابداً متقياً عاملاً بعلمه، مؤدياً للفرائض، مجتنباً للمحارم، فقد روي عن سعيد بن المسيب قوله: «‌ما ‌دخل ‌علي ‌وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق»، وروي عن الأوزاعي قوله: «كانت لسعيد بن المسيب ‌فضيلة ‌لا ‌نعلمها كانت لأحد من التابعين: لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة، عشرون منها لم ينظر في أقفية الناس» وروي عن إدريس قوله: «صلى سعيد بن ‌المسيب ‌الغداة (أي صلاة الصبح) بوضوء العتمة خمسين سنة»، وعن ابن حرملة قال: «سمعت سعيد بن المسيب يقول: لقد حججت ‌أربعين ‌حجة» (حلية الأولياء: 2/163)، وعن ابن حرملة: «‌أن ‌سعيد بن المسيب اشتكى عينه، فقالوا له: لو خرجت يا أبا محمد إلى العقيق، فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة، قال: فكيف أصنع ‌بشهود ‌العتمة والصبح؟» ويروى عن عاصم بن العباس قوله: «سمعت ابن المسيب يقرأ القرآن ‌بالليل ‌على ‌راحلته فيكثر»، ويروى عن يزيد بن حازم قوله: «كان سعيد بن المسيب ‌يسرد ‌الصوم»، وروي عن عبدالله بن يزيد الهذلي: «أن سعيد بن المسيب كان ‌يصوم ‌الدهر، ويفطر أيام التشريق بالمدينة» (الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/132-136).

ختاماً: رحم الله الفقيه التابعي سعيد بن المسيب، وجزاه عما قدمه للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي – أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

 

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض