يواجِه صانعو السياسة والمحترفون العاملون في الدوائر والمؤسسات الحكومية، المدنية والعسكرية، والمسؤولون عن حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وتعزيزها، بيئة استراتيجية أكثر خطورةً وغموضاً وتعقيداً وإثارةً للهواجس، من تلك التي واجهها أسلافهم في القرن العشرين، الذين ضاعف نجاح استراتيجيتهم التحديات الحالية في إثر إطلاق ظاهرة “العولمة”، التي لم تكن ملامحها قد حُدّدت بدقة. وهذا المناخ الاستراتيجي الجديد يتطلَّب بحث الولايات المتحدة في فكرها الاستراتيجي لتستطيع مواصلة قيادة العالم في القرن الجاري.
محتوى الكتاب
وفي هذا الكتاب يميز المؤلف بدايةً بين السياسة والاستراتيجية والتخطيط، ثم يقدم نظريته بشأن الاستراتيجية، ورؤاهُ العميقة في التفكير الاستراتيجي، ما يضمن صياغة سياسة واستراتيجية أفضل، ويجعل التخطيط أكثر ملاءمةً. ولبلوغ هذا الهدف يعتمد الكتاب بشكل كبير على المنظّرين العسكريين لسبب بسيط هو إنجازهم معظم العمل في وضع نظرية الاستراتيجية، التي ــــ برغم ذلك ـــ لا تقتصر على الهيمنة العسكرية، ما ينبغي توضيحه للقراء عندما يدرسون المفاهيم والمفردات المستخدمة هنا، فالأمن القومي يتمثل في أكثر من مجرد استخدام الجيش، ويتطلب تطوير عناصر قوة الأمة وتوظيفها، فضلاً عمّا يشمله من مكونات داخلية وخارجية، ما يزيد تعقيدات ترسيخه واقعاً.
نظرية الاستراتيجية
وتُسهم نظرية الاستراتيجية في تغذية عقول الاستراتيجيين وصانعي السياسة، وتساعد على تنظيم فكر محترفي شؤون الأمن القومي، لكي يتعاملوا مع تعقيدات البيئة الاستراتيجية وتقلُّباتها وثوابتها وقضاياها وفرصها والتهديدات المتأصّلة فيها. وتشجّعنا نظرية الاستراتيجية أيضاً على إعادة التفكير في افتراضاتنا ورغباتنا، ولكنها في الوقت نفسه تشجّعنا على التفكير في الافتراضات الممكنة، ورغبات خصومنا والأطراف الأخرى، فالنظرية الاستراتيجية تفتح أذهان جميع المعنيين على كل الاحتمالات والقوى الفاعلة، وتحضّنا على التفكير في التكاليف والمخاطر المترتبة على قراراتنا، وتزِن النتائج والعواقب المترتبة على خصومنا وحلفائنا والآخرين. وعلى مستوى آخر تتيح النظرية للأشخاص العاملين في حقل الأمن القومي، وآخرين في حقول أخرى، التواصل بذكاء فيما يخص الاستراتيجية. وتؤدي الاستراتيجية دور الإطار المرجعي المشترك لصناعة السياسات والاستراتيجيات المناسبة، وتقويمها، وإيصالها إلى أولئك المنوط بهم تنفيذها، كما تمكّن نظرية الاستراتيجية محترفي الأمن القومي من تقويم إيجابيات سياسة أو استراتيجية ما، وسلبياتها أو مآخذها، بطرائق وشروط مفيدة لصانعي السياسات والقرارات.
وبوجود هذا العدد من المنظّرين المرموقين في الجانب العلمي من الاستراتيجية، لماذا تخفِق استراتيجيات عدَّة في اجتياز اختبار الواقعية عند تنفيذها؟ والجواب هو أن الاستراتيجية مسألة بعيدة عن البساطة، والتفكير الاستراتيجي عمل صعب. وقد وجد المنظرون الجواب الصحيح، إذ من الأفضل أن يُنظَر إليها بصفتها فناً وعلماً. ويقدم لنا إطار النظرية الأساس المنهجي لعملية معالجة الفكرة وفق منهج منضبط، ما يساعد الاستراتيجيين على صياغة الاستراتيجية، ويقدّم دليلاً للآخرين لاتباع هذا المنهج في فهم مزايا استراتيجية معينة، وتقويمها، وانتقادها.
ومع أن النظرية عنصر مساعد مهم لتثقيف العقل، فهي لا تشكل بديلًا لـ”العبقري” المميز الذي وصفه كلاوزفيتز، فالاستراتيجيون العظماء في التاريخ يملكون “قدرات ذهنية فائقة التطور”، إلى جانب علمهم وفنهم وموهبتهم في استيعاب الوقائع والعلاقات والاحتمالات الموجودة في بيئتهم، وتوظيف هذه العناصر مجتمعةً بنجاح في صياغة الاستراتيجية. والعبقري الحقيقي نادر الوجود، إذ يرى بعضهم أن مقولة الاعتماد على العبقرية لم تعُدْ صحيحة في عالمنا المعاصر المعقَّد، وأصحاب هذا الرأي أيضاً يرون أنه يصعُب على شخص واحد ـــ وإن كان عبقرياً ـــ أن يستوعب كل تفاصيل العالم الحديث واختلافاته، وأن الاستراتيجية تُصاغ بشكل أفضل إذا أُخضعت لعملية مؤسساتية، ولكن برغم هذه الرؤى، ففي رأي عامَّة الناس ترتبط الاستراتيجيات غالباً بشخصيات فردية، إذ يملك بعض الأفراد موهبة خاصة بهذا الفن والعلم.
وبغض الطرف عمَّا إذا كانت الاستراتيجية مستنبطة من عقل فرد عبقري، فإن العملية المؤسساتية أو الحوار الوطني بشأن القدرة على التفكير بأسلوب استراتيجي مسألة شديدة الأهمية بالنسبة إلى أولئك الذين يعملون في حقل الأمن القومي، سواء كانوا من صانعي السياسة، أو الاستراتيجيين، أو القادة، أو المخطّطين.
أهمية الكتاب
ويُعَدّ هذا الكتاب مرجعاً موجّهاً للمحترفين المتخصصين بشؤون الأمن القومي، والمُعيّنين في الحقل الأمني لأغراض سياسية، والآخرين الذين يشاركون في صياغة السياسة والاستراتيجية وتنفيذهما وتقويمهما، إلى جانب أولئك الذين يدرسون نقاشات الأمن القومي ويتابعونها. وبينما يركز الكتاب على الاستراتيجية أولاً، فإنه يرى أن فهم الفكر الاستراتيجي، وصياغة الاستراتيجية، يخدمان صانعي السياسة بشكل أفضل. ولا يقترح الكتاب استراتيجية جديدة للقرن الحادي والعشرين، ولا يركّز على انتقاد الاستراتيجية الحالية، ولكنه يقدم منظوراً ومساراً عامَّيْن للفكر الاستراتيجي المنظم.
ويقدم الكتاب تفسيراً وافياً للبيئة الاستراتيجية، إذ يعرض نظرية واضحة وشاملة للاستراتيجية، وإطاراً عملياً للتفكير في هذه البيئة، وكيفية صياغة سياسة واستراتيجية فعَّالتين. كما يساعد الكتاب القارئ على فهم الجوانب الداخلية والخارجية للبيئة الأمنية التي تجعل صياغة الاستراتيجية وتنفيذها مهمة صعبة على الدولة القومية، وبخاصة في الأنظمة الديمقراطية. ويرى المؤلف أنه بالاعتماد على تقويم وحدس صحيحَيْن، نستطيع تحديد العوامل الاستراتيجية الرئيسية، ثم مناقشة السياسة والاستراتيجية المناسبتَيْن وصياغتهما. كما يشرح المؤلف أهداف الاستراتيجية، وطرائقها، والموارد اللازمة لتنفيذها، ويوضح كيفية تجنّب أخطائها الشائعة ومآزق صياغتها. وأخيراً يقدم الكتاب اختبارات عملية لتحديد مدى صلاحية استراتيجية معينة، وتحليل مخاطرها. ومن منظور أوسع يقدّم الكتاب إطاراً نظريّاً للمؤسسات والأفراد العاملين في الأمن القومي، لفهم طبيعة البيئة الاستراتيجية، وكيفية تطبيق النظرية في صياغة السياسة والاستراتيجية.
معلومات المؤلف
هاري آر. يارغر
• يشغل حالياً منصب زميل أول في جامعة العمليات الخاصة المشتركة في فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية.
• شغل منصب أستاذ سياسة الأمن القومي في قسم الأمن القومي والاستراتيجية في الكلية الحربية للجيش الأمريكي.
• تركز بحوثه على النظرية الاستراتيجية، وسياسة الأمن القومي واستراتيجيته، والإرهاب، والحرب غير النظامية، والحوكمة الفعالة، وتعليم وتطوير القادة على المستوى الاستراتيجي.
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي.. التفكير الاستراتيجي وصياغة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين
المؤلف: هاري آر. يارغر، الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، سنة النشر: 2011