يمثل مفهوم «التحول Transformation » في السياق العسكري والمؤسسي، إحدى أبرز القضايا التي تشغل الدول المتقدمة في العقود الأخيرة. فالتحول لا يقتصر على مجرد إدخال تقنيات جديدة أو تحديث بعض الإجراءات، بل يتطلب في جوهره إعادة نظر شاملة في الهياكل التنظيمية، أساليب العمل، مصادر القوة (تشمل مصادر القوة في المؤسسة العسكرية المنظومة الكاملة من القوة المادية والتنظيمية والمعنوية/النفسية والناعمة/التأثيرية والبشرية والمعرفية/المعلوماتية، بحيث تتجسد في قدرة الدولة على إعادة تنظيم القيادة والسيطرة، واستثمار رأس المال البشري، ودمج القدرات الرقمية، والحفاظ على التفوق المعنوي والسياسي)، والآليات المؤسسية التي تحكم أداء القوات المسلحة (النظم واللوائح والإجراءات التنظيمية والإدارية، إضافة إلى هياكل القيادة والسيطرة وعمليات التخطيط والرقابة والتقييم، التي تضمن انسجام الجهود وتكامل الموارد وتحقيق الفاعلية العملياتية). من هنا، يصبح التحول عملية مركبة تمزج بين الابتكار الفكري والتقني من جهة، وبين التغيير البنيوي والحوكمي من جهة أخرى.

لقد برزت في الدول المتقدمة حاجة ملحّة لمراجعة الهياكل التنظيمية العسكرية والإدارية نتيجة مجموعة من العوامل المتشابكة. فقد فرضت التغيرات في بيئة التهديدات (Threat Environment) بعد الحرب الباردة وأحداث 11 سبتمبر 2001 تحديات نوعية من خصوم غير نمطيين، وظهرت أنماط جديدة من الحرب الهجينة والسيبرانية. وإلى جانب ذلك، أسهم التسارع التقني خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي (AI)، والفضاء السيبراني، والأنظمة غير المأهولة، في إظهار عجز البنى التقليدية عن استيعاب الابتكارات بالسرعة المطلوبة، ما دفع الحكومات إلى إنشاء هياكل متخصصة تقود التحول.
كما لعب عاملا الكفاءة والحوكمة (Efficiency & Governance) دوراً محورياً في ذلك، إذ لم يعد ممكناً الاستمرار في إدارة ميزانيات دفاعية ضخمة وأنظمة أعمال (Business Systems) معقدة دون تبني نماذج صارمة للشفافية وضبط التكاليف. وإلى جانب البعد المالي، جاءت المنافسة الاستراتيجية الدولية (Strategic Competition) – خاصة بين الصين والدول الغربية التي تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية - لتفرض سباقاً محموماً نحو تطوير المفاهيم والقدرات، ما جعل التحول خياراً استراتيجياً لا غنى عنه. ولا يمكن إغفال البعد السياسي والإداري، حيث يمثل التحول في الهياكل التنظيمية انعكاساً للإرادة السياسية الوطنية الساعية إلى ترسيخ صورة المؤسسة العسكرية كمنظومة عصرية متجددة وذات كفاءة عالية.
تأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن تبني التحول في الدول المتقدمة لم يكن ترفاً تنظيمياً أو مجرد تحديث تقني، بل كان استجابة ضرورية لضمان الجاهزية المستدامة (Sustainable Readiness) وتعزيز القدرة على مواجهة بيئات أمنية واقتصادية متقلبة. يظهر هذا التوجه بوضوح في التجربة الأمريكية عبر إنشاء كيانات متخصصة مثل مكتب التحول بالقوة (Office of Force Transformation – OFT) الذي ركز على الابتكار العملياتي والمفاهيمي، ومكتب الإدارة المؤسسية (Office of Enterprise Management – OEM) الذي انصب عمله على الحوكمة المؤسسية والجاهزية للأعمال.
الخلفية التاريخية
تم إنشاء مكتب التحول بالقوة (OFT) في عام 2001 داخل وزارة الدفاع الأمريكية بعد الأحداث الشهيرة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكان الهدف من ذلك هو تسريع التغيير (التحول) في القوات المشتركة، ودفعها نحو تبني مفاهيم تشغيلية (عملياتية) جديدة. قاد المكتب في بداية تأسيسه الأدميرال آرثر سيبروسكي (Arthur K. Cebrowski)، الذي ارتكزت رؤيته على الحرب الشبكية (Network-Centric Warfare – NCW) وتحويل المفاهيم إلى نماذج تقنية، أي أطر تطبيقية تربط المفهوم العسكري بالتقنية المناسبة له في صيغة متكاملة قابلة للتجريب العملي بما يسمح بترجمة الأفكار النظرية إلى قدرات عملياتية ملموسة. ورغم إنجازاته في دفع الابتكار وترويج مفهوم الحرب الشبكية، أُلغي مكتب التحول بالقوة عام 2006 نتيجة تراجع الدعم السياسي مع تغيّر أولويات وزارة الدفاع بعد انخراطها في العراق وأفغانستان، إضافة إلى هشاشة وضع المكتب كجهة تجريبية استشارية خارج الأطر المؤسسية المعتادة، علاوة على ما واجهه من مقاومة بيروقراطية والقناعة بأنه يكرر أو يتجاوز أدوار مكاتب أخرى عريقة كالمعنية بالسياسات والاستحواذ والتكنولوجيا. كما ساهم الطابع النظري لمشروعاته واعتماده الكبير على الحرب الشبكية دون نتائج عملية كافية في إضعاف مبررات استمراره، فكان قرار الوزارة بدمج وظائفه ضمن الهياكل التقليدية القائمة بدلاً من بقائه ككيان مستقل (للمزيد يمكن الرجوع لتقرير: Defense Transformation: Clear Leadership, Accountability, and Management Tools Are Needed، GAO, 2040).
(OEM)
أما مكتب الإدارة المؤسسية، فقد نشأ في البداية تحت مسمى مكتب التحول في الأعمال (Office of Business Transformation – OBT) داخل الجيش الأمريكي خلال العقد الثاني من الألفية الثانية، بقصد معالجة التكاليف المتضخمة لأنظمة الأعمال وضمان الشفافية والجاهزية للتدقيق. وفي عام 2023 أعيدت تسميته إلى مكتب الإدارة المؤسسية (OEM) ليعكس دوراً أوسع في إدارة المنظومة المؤسسية (Enterprise Architecture – EA). وفي 2025 اندمج مع مكتب رئيس هيئة المعلومات (Chief Information Officer – CIO) لتحقيق التكامل بين الأعمال (Business) والتقنية (IT) والبيانات (Data).
الواجبات
جاء إنشاء المكتبين نتيجة دوافع متداخلة، كما تقدم، دفعت الحاجة إلى قدرات جديدة بعد عام 2001 لتأسيس مكتب التحول بالقوة، بينما فرض الضغط المالي ومتطلبات الشفافية إنشاء مكتب التحول في الأعمال. كما أسهم التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى في ترسيخ أهمية الابتكار، فيما جاءت متطلبات التدقيق والحوكمة لتوسيع صلاحيات مكتب الإدارة المؤسسية وربطه بهياكل المعلومات والبيانات. فيما يلي الواجبات الرئيسية لكل مركز:
مكتب التحول بالقوة (OFT)
1. دفع الابتكار عبر تجارب تشغيلية سريعة (Operational Experiments).
2. صياغة توجيهات التخطيط للتحول (Transformation Planning Guidance – TPG) كوثيقة استراتيجية.
3. دعم الانتقال من الفكرة إلى القدرة العملياتية.
مكتب الإدارة المؤسسية (OEM)
1. الإشراف على أنظمة الأعمال الدفاعية (Defense Business Systems – DBS).
2. إدارة المحافظ (Portfolio Management) وتقليص التكاليف.
3. دمج التصميم المؤسسي (Enterprise Architecture – EA) مع أنظمة المعلومات (Information Systems)
4. دعم رئيس هيئة المعلومات (Chief Information Officer – CIO) في اعتماد أنظمة الأعمال ضمن مجال المهام (Business Mission Area – BMA Governance)

الاستراتيجيات المتبناة
لم يكتف مكتب التحول بطرح المفاهيم النظرية، بل حرص على تحويلها إلى واقع عملي من خلال مشروعات تجريبية سريعة (Rapid Prototyping Projects). وكان من أبرز هذه المشروعات Stiletto، وهو زورق تجريبي صُمم بهيكل مبتكر يسمح باختبار تقنيات وأسلحة جديدة بسرعة وبتكلفة أقل مقارنة بالمنصات التقليدية.
وقد أتاح هذا النموذج إمكانية الانتقال من مرحلة الفكرة إلى مرحلة التنفيذ العملي في فترة زمنية قصيرة، الأمر الذي ساعد على تسريع دورة الابتكار وربط التجارب التشغيلية مباشرة بمتطلبات ساحة المعركة. أما مكتب الإدارة المؤسسية وفي طور تركيزه على تطبيق التصميم المؤسسي وربط العمليات بالأنظمة، طوّر أدوات معرفية لدعم اتخاذ القرار مثل منصة المعرفة المؤسسية (Enterprise Knowledge Repository) وهي عبارة عن نظام يجمع البيانات والمعلومات والمعايير والنماذج في قاعدة واحدة متكاملة، بحيث يمكن الوصول إليها وتحليلها عند الحاجة لدعم القرارات الاستراتيجية. كما عمل على دمج حوكمة الأعمال (BMA Governance) مع حوكمة تقنية المعلومات (IT Governance)، بحيث لا تُتم إدارة أنظمة الأعمال الدفاعية (Defense Business Systems – DBS) بمعزل عن البنية التحتية والتنظيمية التقنية والمعلوماتية. تلخص الفكرة بأن تكون القرارات المتعلقة بالأنظمة والعمليات منسجمة مع القرارات الخاصة بالمنصات التقنية والبيانات، مما يضمن تكاملاً مؤسسياً كاملاً بين ما يحتاجه القادة والإداريون من أنظمة أعمال وما يقدمه قطاع تقنية المعلومات من حلول وأدوات. إن من شأن هذا الدمج أن يقلل الازدواجية، ويُسرّع الموافقات، ويزيد من كفاءة الموارد، ويجعل عملية التحول أكثر مرونة وفاعلية.
الدروس المستفادة
كشفت تجربة مكتب التحول بالقوة عن صعوبة تنظيم التحول في إطار مؤسسي وقانوني، ضمن الهياكل العسكرية التقليدية، إذ انتهى المشروع بعد خمس سنوات فقط. في حين واجه مكتب الإدارة المؤسسية بطئاً في التغيير بسبب التعقيدات القانونية والتنظيمية، وهو ما استدعى في النهاية دمجه مع مكتب رئيس هيئة المعلومات (CIO) – كما تقدم – لضمان انسيابية أكبر.
تبرز من دراسة التجربتين جملةً من الدروس الصالحة للتطبيق في بيئات مغايرة. إن من الأمور الواضحة حاجة عملية التحول إلى ذراع ابتكاري – تنظيم – منفصل عن الأعمال اليومية، ثم إلى حوكمة صارمة لأنظمة الأعمال بما يضمن الشفافية والكفاءة. كما أن إصدار وثائق تخطيط للتحول مثل توجيه التخطيط للتحول Transformation Planning Guidance (TPG) – الوثيقة الرسمية التي حددت الإطار الاستراتيجي لعملية التحول، ورسمت ملامح الرؤية المستقبلية للقوات المسلحة، كما حددت أولويات التطوير في القدرات المشتركة والجاهزية وعمليات الشبكات، كما ربطت بين المفاهيم والموارد عبر آليات البرمجة والميزانيات. وبذلك أصبحت هذه الوثيقة بمثابة أداة مرجعية لتوجيه المكاتب والقيادات العسكرية نحو مسار موحّد للتحول، إضافة إلى كونها وسيلة لقياس التقدم من خلال مقاييس أداء واضحة – يعد إصدار مثل هذه الوثيقة أداة مهمة لتوحيد الرؤية المشتركة وربط الأعمال بالبيانات والتقنية أمراً لا غنى عنه لتحقيق التكامل والفعالية. والأهم من ذلك كله، أن أي تحول لا يمكن أن يستمر من دون دعم سياسي ومؤسسي طويل الأمد.
وختاماً، تُبرز التجربتان أن التحول العسكري يجب أن يُدار عبر مستويين متكاملين: ابتكاري–عملياتي، كما في مكتب التحول بالقوة (OFT)، ومؤسسي–حوكمي كما في مكتب الإدارة المؤسسية (OEM) ويقدمان نموذجاً عملياً يمكن الاستفادة منه في بناء هياكل مماثلة في جيوش أخرى، مع ضرورة تكييف التجربة مع السياق الوطني والموارد المتاحة.
وبناء على ما تقدم، تكمن القيمة الحقيقية لهاتين التجربتين ليس فقط في نتائجهما المباشرة داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، بل فيما تقدمانه من دروس عابرة للحدود يمكن تكييفها وتطويعها وفق خصوصيات كل دولة. فنجاح أي عملية تحول يرتبط بقدرة المؤسسة على المواءمة بين الابتكار السريع الذي يولّد أفكاراً جديدة قابلة للتجريب، وبين الأطر المؤسسية الراسخة التي تضمن الاستدامة والحوكمة الرشيدة. ومن خلال هذا التوازن، يصبح التحول العسكري عملية مستمرة ومتجددة، تستوعب المتغيرات وتحوّلها إلى فرص تعزز الجاهزية والقوة الوطنية الشاملة.
لواء م/ خالد علي السميطي










