أصدرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقريرها في 25 يونيو 2021 حول ما تعرفه عن سلسلة من الأجسام الطائرة الغامضة التي شُوهدت تتحرك عبر المجال الجوي العسكري المحظور على مدى العقود العديدة الماضية، وهو ما يمثل إحدى المرات الأولى التي اعترفت فيها الحكومة الأمريكية علناً بأن هذه المشاهدات الجوية الغريبة من قبل طياري البحرية وغيرهم تستحق شرعية التدقيق. وفي الواقع العملي، فقد صدر التقرير بعد سنوات من الخلاف الداخلي في واشنطن، بما في ذلك المعارك البيروقراطية داخل البنتاغون والضغط من أعضاء معينين في الكونغرس لإصدار مثل هذا التقرير. وفحص التقرير 144 مشاهدة لما تسميه الحكومة الأمريكية «ظاهرة جوية مجهولة الهوية» منذ مارس 2004 وحتى مارس 2021. وأخفق التقرير في تقديم أي تفسير إلا لمشاهدة واحدة فقط.
يقول تقرير الاستخبارات إن فرقة عمل وزارة الدفاع حددت هذه الفترة تحديداً دون غيرها بسبب عدد من العوامل، أبرزها أنه كان يمكن الحصول على بيانات موثوقة من أجهزة الاستشعار العسكرية المتعددة، كما أصبحت إجراءات الإبلاغ عن الأجسام الطائرة المجهولة، وجمع وتحليل البيانات عنها، تتم وفق إجراءات موحدة ومتفق عليها بين أفرع الجيش الأمريكي وإدارة الطيران الفيدرالية.
ومن جهة ثانية، فإنه خلال تلك الفترة كان يتم تشجيع الموظفين الحكوميين، وخاصة الطيارين، على الإبلاغ عن نشاط أي مواجهات مع أجسام مجهولة، وذلك على عكس ما كان سائداً خلال فترات سابقة، حيث كان أغلبية الطيارين العسكريين والمدنيين تحديداً يفضلون عدم الإبلاغ عنها، لكيلا يتم اتهامهم بالتفوه بالخرافات أو الأوهام، كما أن ذلك يمكن أن يؤثر على مستقبلهم المهني.
وقبل توضيح هذه التفسيرات المحتملة، يجب الإشارة أولاً إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أن هذه ليست المرة الأولى، التي يتم فيها تكليف هيئة فيدرالية أمريكية بالنظر في هذا الأمر. ففي عام 1966، كان سلاح الجو الأمريكي يواجه ضغوطاً شعبية متزايدة لتقديم تفسير للأجسام الطائرة المجهولة.
وقام سلاح الجو حينها بتمويل دراسة علمية امتدت على مدار عامين عن الأجسام الطائرة المجهولة. وتم تكليف جامعة كولورادو بإعداد الدراسة، وذلك برئاسة الفيزيائي البارز إدوارد كوندون. ونشرت نتائجها في عام 1969.
وخلص كوندون إلى أنه ليس هناك دليل على وجود أي أجسام طائرة مجهولة تستخدم تكنولوجية حديثة متطورة. وقدم تفسيرات متعددة، ومنها على سبيل المثال، أنها ظواهر طبيعية نادرة الحدوث، كما أكد أنه أوصى بعدم القيام بالمزيد من الدراسات المكثفة للأجسام الطائرة المجهولة حتى يتقدم العلم بصورة أكبر. وبطبيعة الحال، فإن هذه التفسيرات لم تقنع فئات شعبية واسعة، والتي ظلت عند إيمانها الراسخ بأن مثل هذا التقرير يهدف إلى التغطية على رصد واشنطن لأجسام فضائية غريبة.
تفسيرات محتملة
قبل أن يقدم التقرير تفسيراته المحتملة لهذه الظواهر، فإنه أكد في البداية أنه في 143 مشاهدة من إجمالي 144، تفتقر جهات التحقيق «إلى المعلومات الكافية، في قاعدة البيانات لتفسير هذه الوقائع بشكل محدد»، أي أن التقرير لم يستطع أن يحسم بأي درجة من درجات اليقين ماهية هذه الظواهر.
ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى حالة واحدة، إذ تم تحديده لاحقاً على أنه بالون كبير مفرغ من الهواء ينزلق في المحيط. أما فيما يتعلق بالحالات الـ 143 المتبقية، فإن التقرير قدم تفسيرات متعددة، والتي تتمثل في التالي:
1 تكنولوجيا معادية أكثر تقدماً: أشار التقرير بوضوح إلى أن بعض هذه المشاهدات قد يكون مرتبطاً بتكنولوجيا تابعة لدول أخرى مثل الصين أو روسيا. ويقلق مثل هذا التفسير الولايات المتحدة، إذ أنه يعني أن خصماً أجنبياً، مثل روسيا أو الصين، قد يكون لديه أسلحة تكنولوجية متطورة لا تعرف الولايات المتحدة عنها أي معلومات.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو مستبعداً بالنسبة لكثيرين، ولكنه في الواقع العملي جرى من قبل. فقد سبق وأن اعترفت الولايات المتحدة أن روسيا هي أول دولة في العالم تدخل إلى ترسانتها، أسلحة فرط صوتية، وأكد نائب وزير الدفاع الأمريكي مايكل جريفين في أواخر 2020، أن الولايات المتحدة تتأخر عن روسيا في مجال تطوير الصواريخ الفرط صوتية. بل وأكد جريفين أنه: «ليس لدينا اليوم أنظمة يمكن أن تخلق خطراً مماثلاً لروسيا والصين. ولو أنهما قررتا استخدام صواريخهما، فسنكون في وضع غير مواتٍ لأننا نلعب في سباق ملاحقة».
وتحاول الولايات المتحدة اللحاق بروسيا، وتقوم شركة لوكهيد مارتن بالاشتراك مع القوات الجوية الأمريكية، بمحاولة تطوير صواريخ أمريكية فرط صوتية، خاصة وأن هذه النوعية من الصواريخ تجعل نظم الدفاع الجوي المعمول بها حالياً في الولايات المتحدة غير قادرة على مواجهة هذه الصواريخ. وعلى الرغم من رجاحة هذا التفسير، فإن هناك تحدياً لمنطقيته على أساس أنه من غير المجدي تكرار تحليق طائرات متطورة في المجال الجوي للخصم حيث يمكن توثيقها بسهولة.
2 برامج تكنولوجية أمريكية سرية: أشار التقرير إلى أن بعض هذه المشاهدات، يمكن أن تكون مرتبطة «ببرامج تكنولوجية سرية، تابعة لمؤسسات أمريكية». ولا يجب إغفال عامل مهم، وهو أن الولايات المتحدة تعمدت إخفاء حقيقة تلك الظواهر عمداً على مدار سنوات. فقد اعترفت الولايات المتحدة في 2013 بالقاعدة العسكرية الأمريكية المصنفة سرية للغاية والمعروفة باسم المنطقة 51. وكان يسود اعتقاد شعبي بأن الحكومة الأمريكية تقوم بإخفاء كائنات فضائية في القاعدة الموجودة بولاية نيفادا، نظراً لأن السكان المحليين والزائرين للمنطقة عبّروا عن رؤيتهم لأجسام غريبة تطير داخل الموقع.
ولكن في حقيقة الأمر، فإن هذه الأجسام كانت في الحقيقة طائرات تجسس حديثة تعمل الولايات المتحدة على تطويرها منذ سنوات. وكانت الولايات المتحدة تشجع هذا الاعتقاد بين السكان المحليين، أو على أقل تقدير، لا تصححه، وذلك رغبة منها في عدم معرفة الدول الأجنبية بأنها تقوم بتطوير أسلحة في هذه المنطقة، ومن ثم تشجيعهم على التجسس عليها.
ومن جهة أخرى، لم يستبعد التقرير إمكانية أن يكون هذه المشاهدات نتيجة لمبتكرات قامت بتطويرها شركات تكنولوجية خاصة في الولايات المتحدة، غير أن التقرير أشار إلى أنه لا يعرف هذه الجهات.
3 ظواهر جوية طبيعية: تشمل الظواهر الطبيعية للغلاف الجوي بلورات الجليد والرطوبة والتقلبات الحرارية، التي يمكن قراءتها بصورة خاطئة على بعض أنظمة الأشعة تحت الحمراء والرادار، أي أن هذه الأجسام الغريبة ما هي إلا خلل في أداء أجهزة الاستشعار والرصد الأمريكية، أو نتاج لعملية التشويش الإلكتروني على الولايات المتحدة.
ويلاحظ أن مثل هذه الأخطاء تعد أخطاء شائعة. فمنذ اكتشاف الأسلحة النووية، اقترب العالم من حافة صراع نووي مدمر 22 مرة على الأقل، وكان ذلك بسبب إساءة تفسير الرادارات وأجهزة الاستشعار الأخرى لأحداث لا ضرر منها، مثل سرب من البجع أو لون القمر أو مشاكل طفيفة في الكمبيوتر أو ظواهر جوية فضائية غامضة.
ويمكن أن ينطلق إنذار كاذب بسبب نوعين من الخطأ وهما؛ الخطأ البشري والخطأ التقني، كما قد يحدث كلاهما في نفس الوقت. ففي عام 1980، كاد خطأ تقني أن يتسبب في كارثة في عهد الرئيس جيمي كارتر، حيث تلقى أحد المسؤولين في إدارته مكالمة في تمام الساعة الثالثة فجراً من مكتب المراقبة بقيادة الدفاع الجوي الأمريكي تخطره بأن أجهزة الكمبيوتر رصدت 200 صاروخ موجه من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة.
وتبين في هذه الحالة أن مصدر المشكلة هو شريحة معيبة في الكمبيوتر الذي كان يشغل أنظمة التحذير المبكر للدولة، وقبل ذلك بعام، عرض عامل فني دون قصد شريط تدريب يصور قصفاً صاروخياً يبدو كأنه واقعي على أجهزة كمبيوتر مراكز الإنذار الرئيسية، وهو ما كاد يتسبب في اندلاع مواجهات عسكرية تتضمن استخدام أسلحة لها القدرة على دكّ مدن بأكملها وتسويتها بالأرض.
ويشير التقرير الأخير الصادر عن الاستخبارات الأمريكية إلى إحدى الحالات، والتي تم التقاط فيها ترددات راديو غريبة. ففي أبريل 2019، التقط تلسكوب باركس الراديوي إشارة راديو ضيقة النطاق غريبة من أقرب نظام نجمي للكرة الأرضية، ويسمى «قنطور الأقرب» (Proxima Centauri)، وتمت تسمية هذه الترددات الراديوية لاحقاً باسم «بيه إل إس – 1» (BLC-1). وفي حين اعتقد بعض العلماء أن هذا التردد ما هو إلا توقيع تقنياً لحضارة تعيش على أحد الكواكب التي تدور حول «قنطور الأقرب»، فإن خبراء آخرين أكدوا أن هذا لا يعدو أن يكون سوى تداخل لاسلكي، نظراً لأنه استخدم نفس النطاق الراديوي للأقمار الصناعية.
4 فوضى محمولة بالهواء: تشمل هذه الفئة الطيور، والبالونات، والمركبات الجوية الترفيهية غير المأهولة، أو الأشياء المحمول جواً، مثل الأكياس البلاستيكية التي تشوش على المشهد وتؤثر في قدرة المشغل على تحديد الأهداف الحقيقية، مثل طائرات العدو.
5 تفسيرات أخرى: أكد التقرير في النهاية إلى أن معظم الأشياء الموصوفة، والبالغ عددها 144 مشاهدة، والمسجلة في قواعد البيانات الأمريكية ربما تظل مجهولة الهوية بسبب محدودية البيانات أو صعوبة تحليلها، إذ أنها قد تحتاج، وفقاً للتقرير، إلى معرفة علمية إضافية لجمعها وتحليلها وتوصيف بعضها بنجاح. واكتفى التقرير بالتأكيد أنه سوف يقوم بتجميع هذه الأشياء غير المفسرة في فئة خاصة بها في انتظار التطورات العلمية التي تسمح للولايات المتحدة بفهمها بشكل أفضل.
استبعاد فرضية الكائنات الفضائية:
لم يشر التقرير ضمن تفسيراته إلى إمكانية أن تكون الأجسام الطائرة المجهولة يمكن أن تنتمي إلى حضارة أو حياة توجد خارج كوكب الكرة الأرضية. ويلاحظ أن وكالة ناسا للفضاء قد أكدت على موقعها في اليوم التالي على صدور تقرير أجهزة الاستخبارات حول هذه الأجسام، أن مهمتها تقوم على محاولة استكشاف أي دليل موثوق به على وجود حياة خارج كوكب الأرض. وعلى الرغم من تأكيد ناسا أن وظيفة العلم هو محاولة استكشاف المجهول، إلا أنها أكدت في النهاية أنه لم يتم رصد أي مؤشر على وجود حياة خارج كوكب الأرض. ومن جهة أخرى، فإن ما يضفي مصداقية على استبعاد وجود كيانات فضائية تمتلك مركبات فضائية متقدمة تقوم بزيارة الأرض هو أن الدول الأخرى، مثل روسيا والصين، والتي تمتلك أجهزة رادار واستشعار موجهة للفضاء لم ترصد هي الأخرى أجساماً مماثلة، وهو ما يعني أنه قد يكون من غير المبالغ فيه الادعاء بأنه ليس هناك أي مؤشر موضوعي على وجود كائنات فضائية في كواكب أخرى.
الدكتور/ شادي محمد
(باحث متخصص في الشؤون العسكرية)