تشكل التدريبات العسكرية المشتركة، أحد أبرز مظاهر التعاون العسكري في الوقت الراهن، وقد تزايدت وتيرة هذه التدريبات بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير، حيث يُجرى حالياً تدريب واحد كل حوالي 9 أيام، ما أثار العديد من التساؤلات بشأن تداعيات هذه التدريبات على هيكل النظام الدولي، في ظل وجود اتجاه يرى بأن التدريبات العسكرية المشتركة تؤدي إلى استفزاز الخصوم ومن ثم زيادة خطر اندلاع الحروب، بينما يرى اتجاه آخر أن هذه التدريبات تشكل عاملاً للردع، مما يؤدي إلى خفض التصعيد.
ينطوي النظام الأمني العالمي على شبكات تفاعلية تتبادل فيها الدول المختلفة السلع والخدمات، وتعد تفاعلات المؤسسات الدفاعية أحد أبرز أبعاد هذه الشبكات، وتأخذ تفاعلات هذه المؤسسات مسارين رئيسيين، يتمثل الأول في الطبيعة العنيفة، والتي تأخذ شكل الحرب أو الصراع، أما المسار الثاني فيرتكز على المعاملات السلمية، تسمى أيضاً «الدبلوماسية الدفاعية»، والتي يندرج تحتها مجموعة واسعة من الأنشطة بين المؤسسات الدفاعية، بدايةً من الزيارات الوزارية الدفاعية والتعاون متعدد الأطراف ومبيعات الأسلحة، وصولاً للتعاون الدفاعي الصناعي والتدريبات والمناورات العسكرية المشتركة.
وتشير التدريبات العسكرية المشتركة إلى التدريبات التي تشارك فيها أكثر من دولة، بغية التطوير المنظم للأفكار والمعارف، وتعلم المهارات والاستخدام الأمثل للأسلحة والمعدات العسكرية المختلفة، والتدريب على استخدامها في ظل العديد من الظروف المختلفة، كطبيعة الأرض أو الظروف الجوية، وغالباً ما يكون للتدريب هدف واحد محدد، كمواجهة المجموعات المسلحة أو التدريب على الرماية أو مواجهة استخدام أسلحة الدمار الشامل، مع تعزيز التنسيق والتعاون بين الوحدات والأسلحة المختلفة.
يمكن تقسيم شكل التدريبات العسكرية المشتركة إلى نوعين رئيسيين، يتمثل الأول في «تدريبات مراكز القيادة»، والتي تُجرى غالباً في المقر الرئيسي، وتتكون من مجموعة من أنشطة المحاكاة، والسمة المميزة لهذا النوع من التدريبات هي استخدام المحاكاة الحاسوبية ولا تنطوي على استخدام المعدات الكبيرة كالمدرعات أو الطائرات المقاتلة. أما النوع الثاني فيتمثل في التدريبات الميدانية، حيث يتم توظيف الأفراد للتدريب المباشر على تنفيذ مهمة معينة، وقد يشمل هذا النوع من التدريبات مشاركة وحدات صغيرة أو فرقاً كاملة تشارك في مناورات واسعة النطاق، لكن السمة الرئيسية المميزة لهذا النوع من التدريبات هو أن الأفراد يعملون في الميدان مع المعدات الرئيسة التي يحتاجونها لتنفيذ المهمة. تختلف طبيعة المهام التي تتدرب عليها القوات خلال التدريبات المشتركة، منها مهام قتالية، والتي تنفذها الفروع المختلفة للقوات المشاركة، على غرار تدريبات «أوتمن فورج» و»ريفورجر» التي نفذها حلف الناتو خلال حقبة الحرب الباردة، يضاف لذلك التدريبات الخاصة بالعمليات غير القتالية، كالاستجابة للأزمات الإنسانية أو الكوارث الطبيعية ومهام حفظ السلام وإنفاذ القانون. وقد بدأت الدول في استخدام التدريبات العسكرية المشتركة خلال حقبة الحرب الباردة لتعزيز جاهزيتها القتالية التقليدية، بيد أن التطورات التي طرأت على الحروب الحديثة انعكست في التدريبات العسكرية التي أضحت تشمل عمليات غير تقليدية مختلفة، على غرار مكافحة الإرهاب وحفظ السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، وهو ما بات يعرف باسم «العمليات العسكرية غير الحربية».
وشهدت العقود الثلاثة الأخيرة تزايداً كبيراً في عدد التدريبات العسكرية المشتركة، بالإضافة لزيادة عدد الدول المشاركة فيها. فمنذ عام 1990، شهدت كافة مناطق العالم، باستثناء أمريكا الجنوبية، زيادة في عدد التدريبات العسكرية المشتركة. وقد بلغ عدد هذه التدريبات خلال عام 2016 حوالي 300 تدريب، بزيادة بلغت 6 أضعاف التدريبات مقارنةً بعام 1990. ومع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، شهدت وتيرة هذه التدريبات زيادة جديدة، فقد سجل عام 2022 رقماً قياسياً في عدد التدريبات العسكرية المشتركة التي شهدت مشاركة واسعة من قبل العديد من الدول، وانتشاراً جغرافياً واسع النطاق، كان أبرزها مناورة «الشرق 2022» بين روسيا والصين، بمشاركة الهند وبيلاروسيا وطاجيكستان، وقد اعتبرتها بعض التقديرات أضخم مناورة عسكرية من حيث المساحة وعدد القوات المشاركة فيها. وثمة معايير أربعة يمكن من خلالها قياس وتصنيف التدريبات العسكرية المشتركة، تتمثل فيما يلي:
١- التعقيد: تشير فكرة التعقيد إلى دلالات عدة، فعلى سبيل المثال يفترض أن تكون التدريبات العسكرية التي تضم مجموعة من الدول أكثر تعقيداً من التدريبات الثنائية، كما أن درجة التعقيد في التدريبات التي تنطوي على عمليات عسكرية تقليدية، كالتدريبات التي تركز على الحرب المضادة للغواصات، تكون أكبر مقارنةً بالتدريبات التي تركز على العمليات العسكرية غير الحربية، وينعكس مستوى تعقيد التدريبات العسكرية في الموارد اللازمة لتنفيذه بكفاءة. ويمكن أن تختلف درجة التعقيد لنفس التدريبات العسكرية بين الدول المشاركة في هذه التدريبات، فعلى سبيل المثال، ستكون التدريبات العسكرية لمكافحة الغواصات أقل تعقيداً بالنسبة لدول مثل الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، مقارنة بإندونيسيا التي تعد أقل جاهزية عملياتية وترتكز مهامها اليومية وجاهزيتها على الأمن الداخلي.
٢- الاستدامة: تشير إلى مدى تكرار التدريبات العسكرية بين الدول المشاركة فيها، لذا تعد التدريبات المنتظمة والقائمة على المؤسسية والتي تم تطويرها وتنفيذها باستمرار لفترة زمنية طويلة أكثر تأثيراً من التدريبات التي تنفذ خلال فترات متباعدة أو لمدة قصيرة، كما أن القيمة العملياتية والاستراتيجية تكون أكبر للتدريبات المستدامة، والتي تعكس درجة أكبر من الالتزام مع تعزيز الخبرات العمليات والكفاءة المكتسبة للمشاركين.
٣- الجدوى: وتعني مدى المنافع التي تحققها التدريبات العسكرية المشتركة للدول المشاركة في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها، وفي ظل تفاوت القدرات التشغيلية واختلاف دوافع المشاركين، فإن جدوى التدريبات العسكرية تتمايز بين الدول المختلفة المشاركة فيها، لكن ربما تسعى كل دولة مشاركة في التدريبات إلى تحقيق جملة من الأهداف الخاصة إلى جانب الجدوى المشتركة التي يتم تنسيقها مسبقاً.
٤- التنوع: تشير إلى مدى تنوع شركاء التدريبات العسكرية لكل دولة، فالدول الصغيرة والمتوسطة تفضل أن يكون لديها مجموعة متنوعة من شركاء التدريب لتجنب الاعتماد المفرط على عدد قليل من الشركاء، والاستفادة من القيم التدريبية الأفضل التي تقدمها بعض الدول.
لماذا تشارك الدول في التدريبات العسكرية المشتركة؟
لم تكن الزيادة الكبيرة في عدد التدريبات العسكرية المشتركة، وكذا عدد الدول المشاركة فيها، متزامناً مع تصاعد كبير في عدد الحروب والنزاعات المسلحة والتي ربما تدفع الدول المتقاتلة لتعزيز تعاونها العسكري، كما أنها لم تكن متوازية مع زيادة مماثلة في عدد معاهدات التحالف العسكرية الرسمية، والتي كان يمكنها أن تؤطر لانخراط الدول المتحالفة في تدريبات عسكرية مشتركة، وهو ما قد يعني أن الدول المختلفة وجدت كثيراً من المكاسب التي يمكن أن تحققها من خلال مشاركتها في هذه التدريبات. تتجاوز التدريات العسكرية فكرة مجرد الروتين التدريبي، إذ إنها تساعد في تحقيق جملة من الأهداف التكتيكية أو العملياتية، على غرار تدريب الأفراد من دول مختلفة على العمل المشترك، كالتدريب على الاتصالات والخدمات اللوجستية وتنفيذ تكتيكات باستخدام تقنيات ومفاهيم جديدة، كما يعد التوافق التشغيلي هدفاً عملياتياً رئيسياً. كذا، تحقق التدريبات العسكرية أهدافاً أكثر اتساعاً من مجرد الأهداف التكتيكية أو العملياتية، ففي إطار الدبلوماسية الدفاعية، يمكن للتدريبات العسكرية أن تعكس رسائل دفاعية لطمأنة الشركاء والحلفاء، وفي الوقت ذاته يمكنها إظهار مدلولات هجومية لممارسة الضغط على الخصوم.
من ناحية أخرى، تستخدم التدريبات العسكرية المشتركة لاختبار المفاهيم والقدرات العملياتية، وتعزيز قدرة القوات بتعريضها لبيئات مختلفة، مع بناء شراكات أوسع من الحلفاء وتعزيز التوافق التشغيلي، ناهيك عن إظهار الكفاءة والاستعداد للقتال لردع الخصوم المحتملين. كما تكتسب التدريبات العسكرية المشتركة قيمة سياسية واستراتيجية أكبر مقارنة ببناء القواعد العسكرية، حيث تعد هذه التدريبات بمثابة تدخلات مؤقتة تستخدم بمرونة لتصعيد أو تهدئة التوترات في المناطق المختلفة. بالتالي، ينظر للتدريبات العسكرية المشتركة باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز «الدبلوماسية العسكرية» في زمن السلم. يمكن من خلالها إظهار الدعم للحلفاء، على غرار التدريبات العسكرية التي تنفذها الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية لدعم الأخيرة في مواجهة جارتها الشمالية، وهو ما تجسد في المناورات التي نفذتها واشنطن وسيؤول عقب إطلاق بيونج يانج لصاروخها الباليستي العابر للقارات في فبراير 2023. كما يمكن للدول أن توظف التدريبات العسكرية المشتركة لتأكيد خروجها من العزلة الدولية، على غرار مناورات «الشرق 2022» التي نفذتها الصين وروسيا عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. بالإضافة لذلك تستهدف التدريبات المشتركة تعزيز القدرات العسكرية للقوات المشاركة، على غرار التدريبات المشتركة التي نفذتها إندونيسيا والاتحاد الأوروبي في أغسطس 2022، في بحر العرب، لتعزيز القدرات العسكرية لمكافحة القرصنة. وعلى المنوال ذاته، يمكن أن تهدف التدريبات المشتركة إلى إكساب القوات المشاركة خبرات جديدة من خلال التدريب في ظروف بيئية مختلفة، مثل تدريبات «الرياح المتجمدة 2022»، التي استضافتها فنلندا في نوفمبر وديسمبر 2022، بمشاركة دولية واسعة، للتدريب في الظروف الجوية الصعبة قبالة السواحل الفنلندية.
من ناحية أخرى، قد تستخدم القوى الكبرى التدريبات العسكرية المشتركة للترويج لأسلحتها ومحاولة فتح أسواق جديدة لبيعها. كما تشكل التدريبات العسكرية المشتركة أداة لتعزيز درجة الثقة والتعاون بين الدول المختلفة، ولعل هذا ما ينعكس في تدريبات «هجوم الصقر» الذي نفذته الصين وتايلاند، في أغسطس 2022، بعد توقف طويل خلال جائحة كورونا، بهدف تعزيز درجة التعاون والثقة بين البلدين. تجدر الإشارة إلى أن التدريبات العسكرية المشركة تعكس درجة من النضج في العلاقات الدافعية بين الأطراف المشاركة، إذ يفترض أن يكون لدى الدول المشاركة في أي تدريبات عسكرية مشتركة علاقات دفاعية أساسية، خاصةً وأنهم يظهرون خلال هذه التدريبات جزءاً من عقائدهم وتكتيكاتهم ومدى جاهزيتهم ومواردهم وغيرها من السمات العسكرية والتنظيمية الحساسة. ولعل هذا ما يفسر أن التدريبات العسكرية لا تعد أول خطوة من خطوات التفاعل الدفاعي، فعادةً ما يبدأ الشركاء باتفاقية تعاون دفاعية، مع تبادل الزيارات رفيعة المستوى بشكل منتظم قبل البدء في التدريبات العسكرية المشتركة.
التنافس الأمريكي الصيني في مجال التدريبات العسكرية المشتركة
لا تزال الولايات المتحدة حتى الآن تعد الشريك التدريبي الأهم بالنسبة لأغلبية دول العالم، بما في ذلك منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فعلى سبيل المثال، شاركت واشنطن في حوالي 1113 تدريباً عسكرياً مع 14 دولة في هذه المنطقة خلال الفترة 2003-2022. لكن الصين بدأت مؤخراً تطرح نفسها كشريك مهم بالنسبة للعديد من الدول فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية المشتركة، فخلال الفترة الزمنية ذاتها نفذت بكين نحو 130 تدريباً عسكرياً مع دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في مؤشر على مساعي الصين التدريجية لمنافسة الولايات المتحدة في تنفيذ التدريبات العسكرية المشتركة، رغم أنها تمتلك شراكات دفاعية مؤسسية أقل، مقارنة بواشنطن.
لكن، بينما تبدو التدريبات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة أكثر تعقيداً مع تركيزها على الحرب المشتركة أكثر من العمليات القتالية البحرية والجوية، فإن الصين تركز في تدريباتها مع شركائها على العمليات البرية ومكافحة الإرهاب والمساعدات الإنسانية والإغاثة من الكوارث. وتعمل الولايات المتحدة من خلال التدريبات العسكرية إلى تعزيز دورها القيادي وإظهار التزام موثوق إزاء شركائها، مع ردع خصومها ودعم بنية تحتية إقليمية لأي مجهود حربي أمريكي مستقبلي. في المقابل، تستهدف الصين حالياً من خلال قيادتها للتدريبات العسكرية إلى تعزيز الثقة مع شركائها الإقليميين، مع العمل على توسيع نطاق شراكاتها المؤسسية.
بالتالي، باتت الولايات المتحدة والصين تمثلان جوهر شبكة المناورات العسكرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في ظل التنافس الاستراتيجي بين البلدين والقدرات والموارد التي يمتلكها كل منهما لنشر الوحدات والمعدات اللازمة للتدريبات العسكرية المشتركة، وهو ما يدعم من المبدأ العسكري الذي يشير إلى أن «التدريب يجب أن يجري في المكان الذي يتوقع أن يكون فيه القتال»، في ظل الحديث عن احتمالية حدوث مواجهات مسلحة بين البلدين في هذه المنطقة.
ومن هذا المنطلق، كشفت بعض التقارير الغربية أن التدريبات العسكرية المتنامية التي تقوم بها الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بالتزامن مع تحركات بكين لتحديث قواتها العسكرية بوتيرة متسارعة، ستؤدي في النهاية إلى خسارة الولايات المتحدة لتفوقها في المنطقة. ورغم التحديات التي تواجه الصين حالياً، لا سيما فيما يتعلق بنقص الخبرة القتالية، فإنها تعمل من خلال الانخراط في العديد من التدريبات لتعزيز خبرتها الميدانية. وبينما يتوقع أن تسعى واشنطن إلى الحفاظ على تفوقها عبر إجراء تدريبات عسكرية مكثفة مع العديد من الدول، بما في ذلك أغلب دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في المقابل ستحاول بكين تضييق هذه الفجوة من خلال تعزيز علاقاتها التدريبية مع الشركاء الإقليميين.
التدريبات العسكرية المشتركة وهيكل النظام الدولي؟
تشير بعض التقديرات الغربية الى أن زيادة التدريبات العسكرية ربما تؤدي إلى تنامي احتمالات وقوع الحوادث أو سوء الفهم، ما قد يفضي إلى زيادة خطر الصراع، فبدلاً من المساهمة في ردع الخصوم، يمكن أن تؤدي التدريبات العسكرية إلى استفزاز الخصوم المحتملين. ولعل هذا ما انعكس في اندلاع حرب «أوسيتيا الجنوبية» عام 2008 بعد شهر واحد من مشاركة جورجيا في التدريبات العسكرية «نسيم البحر»، والتي شاركت فيها 16 دولة، منها خمس دول أعضاء في حلف الناتو، حيث أعطت هذه التدريبات إشارات للرئيس الجورجي آنذاك، ميخائيل ساكاشفيلي، بأنه يحظى بدعم غربي في مواجهة الدعم الروسي لإقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ما دفعه نحو التوغل عسكريا في جمهورية أوسيتيا الجنوبية المعلنة من جانب واحد.
لكن، في المقابل، لم تؤد التدريبات العسكرية السنوية لحلف الناتو (REFORGER) إلى أي تصعيد مع حلف وارسو خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى أن التدريبات العسكرية المشتركة يمكن أن تؤدي إلى زيادة احتمالية الصراع واندلاع الحروب إذا كانت تجرى بين دول ليس بينها تحالفات عسكرية قائمة، أما التدريبات التي تجرى بين الدول المتحالفة عسكرياً فإنها لا تشكل عاملاً محفزاً للتصعيد.
ورغم أن التدريبات العسكرية تعكس إشارات أكثر غموضاً مقارنةً بالاتفاقيات العسكرية الرسمية التي تنص على التزامات محددة، لكنها تظل إحدى أكثر الإشارات دلالة على الدعم الشامل، لا سيما من قبل القوى الكبرى التي تشارك في هذه التدريبات إزاء القوى المتوسطة والصغيرة. وفي هذا السياق، تشترك الصين وروسيا في هدف إعادة هيكلة النظام الدولي الراهن، والذي تعتبرانه خاضعاً للهيمنة الأمريكية، ويشكل التعاون العسكري بين بكين وموسكو محدداً رئيسياً في شراكتهما القائمة، وقد توطد هذا التعاون بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، إذ بدأ التعاون العسكري بينهما يأخذ طابعاً جديداً من خلال التدريبات العسكرية المشتركة. ورغم أن هذه التدريبات بدأت فعلياً بين البلدين منذ عام 2003، في إطار التدريبات العسكرية المشتركة تحت رعاية منظمة شنغهاي للتعاون، بيد أن وتيرة هذه التدريبات شهدت زيادة ملحوظة بدايةً من عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، قبل أن تتراجع هذه التدريبات خلال جائحة كورونا، لكنها عادت لتشهد تنامياً كبيراً منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وقد ازدادت هذه التدريبات تعقيداً وتشاركية، بما في ذلك إنشاء مركز قيادة مشتركة وعمليات إنزال جوي في مطارات كل طرف، كما باتت هذه التدريبات تشهد درجة أعلى من التنسيق، حيث تعمل القوات المشتركة على استخدام المعدات العسكرية المتطورة لكل طرف، بالإضافة لذلك أضحت التدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين تستند إلى سيناريوهات أكثر تعقيداً ومحاكاة الحروب الإقليمية، وتعزيز القدرة على العمل المشترك في المسارح العسكرية، وهو ما يعكس تنامي الثقة المتبادلة بين البلدين والتحول إلى تنسيق أعمق، ما قد يمهد الطريق لعمليات مشتركة مستقبلاً لتحقيق المصالح والأهداف المشتركة.
ويلاحظ أن ثمة تحول في التدريبات العسكرية الروسية – الصينية نحو الشرق، حيث ازدادت في البحار الصينية، خاصةً بحر الصين الشرقي، بينما قلت التدريبات في البحار الأوروبية، والأمر ذاته فيما يتعلق بالتدريبات الجوية، والتي تجرى حصراً في منطقة آسيا الكبرى، وربما يرتبط هذا الأمر بصعوبة قيامهما بهذه التدريبات في البيئة الأوروبية. بالإضافة لذلك، شهد نطاق بعض التدريبات الروسية – الصينية اتساعاً ملحوظاً، وهو ما يظهر قدرة الصين وروسيا على إبراز قوتهما العسكرية على نطاق عالمي، وفتح آفاق جديدة للتعاون بين الدول، وربما يدعم هذا الطرح تحديد مواقع التدريبات بالقرب من الخصوم، كألاسكا وهونشو، أو في مناطق التنافس الجيوسياسي المتزايدة، على غرار البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر البلطيق وفي المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وهو ما يعكس إشارات للاستعداد على تحدي المنافسين، وهو ما تجسد في اختيار توقيتات هذه التدريبات، ففي عام 2023، أبحرت السفن الروسية والصينية بالقرب من جزيرتي «أوكيناوا» و«مياكو» اليابانيتين، بالتزامن مع القمة الثلاثية التي جمع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان. بالتالي، تعكس التدريبات العسكرية المتزايدة مؤشرات مهمة بشأن الصراعات المستقبلية المحتملة، ولم يعد تصميم هذه التدريبات يستهدف فقط قراءة توقعات المستقبل المحتمل واستعداد الأطراف المختلفة، بيد أنها أضحت تمثل وسائل لتشكيل هذا المستقبل عن طريق التأثير على سلوك الخصوم. وعلى المنوال ذاته، أثارت التدريبات العسكرية الروسية – الصينية، في سبتمبر 2024، والتي أطلق عليها «محيط 2024»، قلقاً غربياً متزايداً، وهي الأحدث في سلسلة التدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين، وذلك عقب مجموعة من التدريبات المشتركة بينهما خلال العام ذاته، بما في ذلك التدريبات البحرية المشتركة بالقرب من اليابان، والتدريبات التي جرت بالقرب من ألاسكا. وتشير التقديرات الغربية إلى أن التدريبات العسكرية المشتركة بين موسكو وبكين تتسق مع نمط قائم بين البلدين يعتمد على التنسيق العسكري المعزز بينهما، وفي إطار تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، ناهيك عن الحرب الروسية – الأوكرانية. ويتوقع أن تتولى الصين دوراً قيادياً في التدريبات العسكرية خلال الفترة المقبلة، خاصةً وأنها تسعى لإعادة التموضع في بعض المناطق التي شهدت تراجعاً في النفوذ الروسي، لمحاولة ملء الفراغ وسد احتياجات هذه الدول.
ومن هذا المنطلق، بينما شكلت التحالفات العسكرية التقليدية الركيزة الأساسية لإعادة هيكلة النظام الدولي في الفترات السابقة، لا سيما خلال فترة الحرب الباردة وما قبلها، يبدو أن التدريبات العسكرية المشتركة أضحت هي الركيزة البديلة لإعادة هيكلة النظام الدولي الراهن، باعتبارها أقل تكلفة وأكثر مرونة لتناسب الديناميكية المتسارعة للنظام الحالي الذي يبدو في طور إعادة التشكل. وربما يدعم هذا الطرح أن الزيادة الكبيرة في وتيرة التدريبات العسكرية المشتركة جاء متزامناً مع تنامي الحديث عن الحاجة إلى تحول كبير في بنية وتفاعلات النظام الدولي، ومن ثم إعادة هيكلة توازنات القوى القائمة.
وفي الختام، تشكل التدريبات العسكرية المشتركة إحدى الركائز الرئيسية للنظام الدولي الراهن، وقد باتت تؤثر على قدرة الدول المختلفة على الاستجابة لمجموعة واسعة من التحديات الأمنية. ويمكن الحديث عن دور تحفيزي، على الأقل، لهذه التدريبات في إعادة هيكلة بنية النظام الدولي الراهن، حيث تشكل دبلوماسية التدريبات المشتركة محدد رئيسي في ظهور نظام دولي جديد، يتوقع أن تشكل فيه هذه التدريبات خياراً أكثر تفضيلاً للردع بدلاً من التحالفات أو استخدام القوة الفعلية، لذا يرجح أن تستمر الوتيرة المتسارعة للتدريبات العسكرية المشتركة خلال الفترة المقبلة.
عدنان موسى مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة